م تكن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بمفهومها الحالي، قد رأت النور بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. كانت مجرد عمليات استخباراتية تنفذ من خلال عملاء على الأرض إلى أن أقتنع أثرياء أمريكا بضرورة الضغط لتوسعة وكالة الاستخبارات وذلك لسببين رئيسين: أولهما، مكافحة الفكر الشيوعي الذي انتشر مثل النار في الهشيم في كافة أرجاء العالم، وثانيهما، الترويج لليبرالية والديموقراطية التي تخدم مصالح الأثرياء الأمريكيين من أجل التوسع في كل أرجاء العالم الممكن التوسع فيه.
وفي أيامنا هذه، تواجه الرأسمالية الليبرالية الغربية انتقادات جوهرية حول عدم قدرتها على التعامل مع أزمة كورونا، وحول تفضيلها للجوانب الاقتصادية على حساب حياة الإنسان الذي يعد المورد الأول للاقتصاد. فكان لابد للغرب من التحرك في حملة إعلامية مضادة للصين التي يبدو، على الورق، أنها نجحت في إدارة أزمة الفيروس، وهو أمر لا يحرج الدول الغربية وحسب، بل يروج للنموذج الصيني "الشيورأسمالي" وهذا أشد ما تخشاه تلك الدول. أسعى في هذه المقالة إلى تفكيك الخطاب الإعلامي الغربي المهاجم للأرقام الصينية وكيفية احتوائها لتفشي فيروس كورونا من أجل الوصول إلى فرضية مفادها أن أمريكا والغرب تشكك في الأرقام الصينية لتغطية فشل الليبرالية في مواجهة الجائحة.
تقارير وكالة الاستخبارات المركزية
نشرت وكالة بلومبيرغ (النيوليبرالية) مؤخراً تقريراً عن تصريحات لمسؤولين في البيت الأبيض عن اطلاعهم على تقارير استخباراتية تشككك في الأرقام الصينية حول تفشي واحتواء المرض، كما شككت أيضاً في الأرقام الروسية والإيرانية. ولا يمكننا بأي حال تأكيد أي رقم من أي دولة في العالم لأن معايير الإفصاح غير موحدة. وفي نفس الوقت، لا يمكننا الوثوق بتقارير وكالة الاستخبارات الأمريكية. أليست هي من زورت تقارير أسلحة الدمار الشامل لتبرير تدمير العراق والسيطرة على نفطه؟! في حقيقة الأمر، يجب أن يكون الشك هو الأصل في التعامل مع تقارير وكالة الاستخبارات الأمريكية. المؤسف في الأمر أن الإعلام العربي "الببغاواتي" نشر ما نقلته بلومبيرغ دون أدنى شك بمصداقية تلك الوكالة، ومصداقية وكالة الاستخبارات الأمريكية!
كشفت الجائحة عن الوجه القبيح للعنصرية ضد الآسيويين بشكل عام والصينيين بشكل خاص. وأظهرت الجائحة قباحة جوهر القيم التي لطالما كان الغرب يدعيها. فدول الاتحاد الأوروبي أغلقت حدودها فيما بينها
اتفاق الإعلام الغربي على التشكيك في الأرقام الصينية
كنا إذا أردنا أن نتندر على الوسائل الإعلامية اللامهنية نضرب إعلام السيسي المصري مثالاً. وقد عرى العديد من المدونين تكرار الوسائل الإعلامية "السيساوية" جملاً بحد ذاتها من أجل خلق حالة من القبول الجمعي لما يراد لتلك الوسائل أن تروج له. وحيث أنني أجلس في بيتي، اختيارياً، منذ 25 يوماً فقد لازمت متابعة الخطاب الغربي فوجدته كله متساوق مع التقارير الاستخباراتية المزعومة حول عدم مصداقية الأرقام الصينية. وكأنهم كلهم قرأوا على شيخ واحد! وقد وجدت أن الإعلام اليميني أكثر مباشرة في مهاجمة الصين والتشكيك في أرقامها وتحميلها مسؤولية نشر الوباء في العالم، في الوقت الذي يتبع فيه الإعلام النيوليبرالي منهجاً غير مباشر في الإشارة إلى ووهان بأنها مصدر الفايروس، وأن الأرقام الصينية غير دقيقة. وما بين هذين الموقفين، دعونا ننتظر مراسلة الجزيرة، شيماء جو إي إي، التي هبطت في ووهان قبل أسبوع لتأتينا بالخبر اليقين، إن أمكن.
أما اليقين الذي بين أيدينا الآن فيكمن في عدد حالات الإصابات التي تم تسجيلها على أنها منتهية. ويشمل هذا العدد مجموع الحالات التي تماثلت للشفاء مضافاً إليه مجموع الوفيات. ولو قسمنا مجموع الوفيات على مجموع الحالات المنتهية لحصلنا على مؤشر قد يعكس قوة الرعاية الصحية في أي دولة في العالم. وقد بلغت تلك النسبة في أمريكا 36 في المائة، وفي بريطانيا 97 في المائة، وفي معظم دول الاتحاد الأوروبي لم تقل عن 40 في المائة باستثناء ألمانيا بنسبة 5 في المائة والنمسا 7 في المائة (بالمناسبة، هناك انتقاد لألمانيا حول كيفية احتساب الوفيات). أما المعدل العالمي لتلك النسبة فقد بلغ 21 في المائة حتى الثامن من أبريل الجاري، بمعنى أن معظم الدول الرأسمالية الحرة تعاني من سوء إدارة ورعاية صحية لتفشي الوباء.
الاحتفاء الإعلامي بالنجاح السنغافوري الذي لم يكتمل
لم يخفِ مدير عام منظمة الصحة العالمية، وهو منصب سياسي بامتياز، احتفاءه بالإنجازات السينغافورية في مكافحة تفشي الفيروس. وفي يوم الأربعاء الأول من إبريل 2020، شاهدت برنامجاً على قناة ABC News الأسترالية يحتفي بالجهود السينغافورية ويظهر أن الحياة تسير كالمعتاد هناك لأن الدولة كانت جاهزة للتعامل مع الوباء. ولنا هنا وقفتان مع ازدواجية الإعلامي الغربي. الأولى أن السلطات السينغافورية أعلنت يوم الجمعة الثالث من إبريل، منع التجمعات وشددت على إجراءات التباعد الاجتماعي لتجدد تفشي الفايروس على أراضيها، وهذا يعني أنه لا يوجد حل سحري للتعامل مع الوباء. والثانية، أن سينغافورة دولة لا تعطي خصوصية البشر أولوية في تعاملاتها، من خلال انتشار كاميرات المراقبة على كل شبر من أراضيها، ومن خلال إجبارها الناس على تحميل تطبيق يمكن الحكومة من متابعتهم حتى يسهل متابعة التفشي. ولست هنا لأنتقد الإجراءات السينغافورية، ولكن لأظهر أن مثل هذا التصرف يتم تطبيقه في الصين لكن الإعلام الغربي يتباكى على الخصوصية وحقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بالصين فقط.
فشل النموذج الليبرالي الرأسمالي في التعامل مع الجائحة
ينظر العرب، غير المطلعين على الواقع الغربي، على أن الدول الغربية تعيش في رفاهية مطلقة، وأن سكانها ينعمون بخيرات لا يعلمها إلا الله. كواحد من العرب، لم أطلع على واقع الحال الغربي إلا عندما تنقلت ودرست وعشت فيه. وما لا يعلمه المواطن العربي، أن الإنسان الغربي عليه العمل لساعات طوال، إن وجد العمل، حتى يستطيع أن يفي بمتطلبات الحياة التي غالباً ما يتم الوفاء بها من خلال بطاقات الائتمان والقروض الاستهلاكية. لقد أغرقت الدول الغربية سكانها بمفهوم الحرية الفردية وصانتها لهم، وكان الثمن العبودية للبنوك والضرائب مع تخلي الدول عن تغطية الكثير مما يحتاجه الناس ومن أبرزه الرعاية الصحية. ولا شك أن ذلك التخلي، أو الإهمال في الرعاية الصحية، يتفاوت من دولة إلى أخرى بحسب تغول النيوليبرالية في تلك الدول. لكن النظرة الكلية لواقع الحال الغربي تشير إلى أن نموذجها الليبرالي فشل فشلاً ذريعاً في مواجهة الجائحة.
لا حقوق إنسان ولا مساواة ولا انسياب أو أمان بين الحدود
كشفت الجائحة عن السقوط الأخلاقي الذي تعاني منه الليبرالية الغربية، فلا احترام لحقوق الإنسان إلا إذا كان الأمر مدفوعاً سياسياً (كانتقاد الصين مثلاً). ولنا هنا في رفض الدول استقبال ركاب السفن السياحية التي تقطعت بها السبل وهي تتنقل من دولة لدولة فلا تجد إلا الله ثم البحر ومناعة القطيع كي تنجدها. كما كشفت الجائحة عن الوجه القبيح للعنصرية ضد الآسيويين بشكل عام والصينيين بشكل خاص. وأظهرت الجائحة قباحة جوهر القيم التي لطالما كان الغرب يدعيها. فدول الاتحاد الأوروبي أغلقت حدودها فيما بينها، وانتشرت أنشطة "البلطجة" والسطو على شحنات الإمدادات الطبية بين الدول، وظهرت حقيقة الأنانية في طرد الزوار والسياح من البلاد، وفي التخلي عن المشردين والفقراء، وطردهم من مآويهم، وإيقاف الخدمة عنهم، خشية الإصابة في المرض.
ماذا لو انطلق الفيروس من أمريكا؟
اتهم الرئيس ترمب (وقلده بعض السياسيين الغربيين والإعلام الغربي) الصين بعدم الإفصاح عن كثير من المعلومات بخصوص التعامل مع الفيروس. ولست هنا لأدافع عن الصين، ولكن لأتخيل حالة عكسية تكون فيها أمريكا مصدراً للفيروس. هل كان ترمب سيفصح عن المعلومات المتعلقة به مجاناً؟! أتخيل ترمب بين مجموع من مناصريه يقول: من يريد معلومات فعليه أن يدفع! وأتخيل أن مناصريه يهتفون له ويصفقون بحرارة! تماماً كما كرر هذا المشهد مراراً لمطالبة السعودية بالدفع مقابل الحماية!
ومن ناحية أخرى، فقد انتقدت وسائل إعلام أوروبية "البلطجة" الأمريكية في السطو على شحنات الإمدادات الطبية القادمة من الصين من خلال إغراء المنتجين الصينيين بمبالغ مضاعفة كي يتخلوا عن بيعها لدول أوروبية مثل فرنسا، ولم تسلم الجارة الكندية من سوء السلوك الأمريكي.
الخلاصة
قدمت هذه المقالة فرضية مفادها أن تشكيك أمريكا والغرب بالأرقام الصينية حول وباء كورونا ما هو إلا تغطية لفشل أنظمة تلك الدول في التعامل مع الوباء من جهة، وخشية من رواج النموذج الصيني كفكر في العالم الغربي. وتخلص المقالة برسالة إلى الأنظمة الرأسمالية الغربية مفادها: بعتم مقدراتكم للشركات العملاقة، وأنهكتم كواهل شعوبكم بالضرائب، وأثقلتكم خزائنكم بالديون، وقصرتم في أنظمتكم الصحية، فلا يصح فيكم إلا كما قالت العرب: "يداك أوكتا وفوك نفخ".
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة