ترك فينا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما إن تمسكنا به لن نضل ولن نزيغ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وقد تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَي إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ" (صحيح مسلم)، وسنته الشارحة لكتاب الله وسيرته العطرة والترجمة العملية لهذا الدين، وقد أمرنا الله أن نتخذه قدوة وأسوة بقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]، ففي ذلك البوصلة التي تضبط وجهة العبد وهما المعيار الذي إن احتكم إليهما المسلم صلح أمره واستقامت حياته، وتمام فضل الله علينا وكمال نعمته أنه ارتضى لنا هذا الإسلام ديناً والذي كان خيراً من طبقه والتزم به فكان لنا الأسوة الحسنة وهو النبي المبعوث رحمة للعالمين، ولهذا فإن السير على خطاه والاقتداء به من شرع الله لا يزل ولا يحيد عنه إلا هالك.
فجاء هذا القرآن ليكون لنا نوراً يضيء دروبنا وآفاق نفوسنا؛ ففي آياته منهج حياة مستقيم يضبط المسلم حياته وفقها فيلازمه الفلاح والتوفيق، ومن أنوار هذا الكتاب الكريم آية كريمة ترسم لنا معالم راسخة في حياتنا وتصحح مفاهيمنا وتقيم ما اختل من معاييرنا، وهي قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28]، ولا عجب أن تكون في سورة الكهف التي هي نور من الجمعة للجمعة، بل وتخاطب إمام المهتدين ورسول العالمين، ليكون خطابها لنا من باب الأولى ونحن ما نحن عليه من تعثر الخطى واضطراب الموازين من حين لآخر.
وليست عبثاً أن تأتي هذه الآية في سورة الكهف، الكهف الذي كان ملاذ الفارين بدينهم من غطرسة الإنسانية وجبروتها وقسوتها عندما تجحد ربها وتحيد عن الطريق المستقيم.
الكهف الذي شرّفه الله ليكون حصن الموحدين يحرسهم على بابه كلب ذكرته آيات الكتاب العزيز فنال الشرف والذكر على مدار كل تلك السنين؛ لرفقته للصالحين في حياتهم التي اختاروها، في الوقت الذي تصمت الآيات عن ذكر أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فأعرضوا عن ذكر ربهم فأعرض الله عنهم تماماً كأصحاب السبت الذين وقفوا مكتوفي الأيدي أمام من يخالف وينتهك بل ويتحايل على أمر الله.
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} قاعدة نورانية ربانية ترسم خارطة للمسلم في نهج تعامله وتصحيح نظرته وإقامة معيار له في تعامله مع نفسه والآخرين، وفي هذه الآية النورانية وقفات ينبغي لكل مسلم أن يقف نفسه عندها:
الوقفة الأولى/ أهمية الصحبة الصالحة: فقد جاءت هذه الآية لتخاطب النبي الأكرم وإمام المصلحين بضرورة تخيُّر الصالحين لمصاحبتهم وحمل النفس على ذلك وقطع تشوفها لغير صحبتهم، فهم الذين لا يشقى جليسهم، وبيان ضرورة مجاهدة النفس على الصبر لمصاحبة مثل هؤلاء الصالحين في وقت كان يتنزل فيه الوحي، فكيف بواقعنا اليوم وقد طغت به الماديات على حياتنا وكثرت الشهوات والشبهات؛ فالصبر على صحبتهم في طاعة الله من أعلى مقامات الصبر، فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "والصبر، المذكور في هذه الآية، هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه تتم باقي الأقسام" (تفسير السعدي).
الوقفة الثانية/ الولاء والانتماء يسمو فوق أية وشيجة من الوشائج الدنيوية: وتجعل القيمة الحقيقة في الحياة لرابطة العقيدة التي يجب أن تسود على أي روابط ومصالح أخرى، فانظر لفتية الكهف جمعتهم العقيدة بين جدران كهف كان أكثر حنوا ورحمة وسعة لهم من أواصر القربى وصلة أرحامهم الذين خالفوهم في التصور العقدي.
الوقفة الثالثة/ إصلاح المعايير في المجتمع: إذ إن الإنسان بعقيدته ومدى تخلقه بهذا الدين يعلو قدره؛ فالأفضلية للتقوى وليس لشرف النسب أو للمكانة الاجتماعية أو الغنى، إذ يقول ابن عاشور في تفسير {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: "وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة وجعلوا همّهم الصور الظاهرة" (التحرير والتنوير).
الوقفة الرابعة/ التحذير من زينة الحياة الدنيا فهي إلى زوال وليس أصدق تعبيرا من ذلك عندما وصفها الله بالزهرة في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه:131] وما ذلك إلا لأن جمال الزهرة محدود إلى أجل بل سرعان ما تذوي وتذبل.
الوقفة الخامسة/ التحذير من صحبة الغافلين الذين يتبعون الهوى ويصدون عن أمر الله مهما بلغت مكانتهم ومناصبهم؛ لأن صحبتهم قاطعة عن المصالح الدينية، وفيها من المضار ما أورده السعدي في تفسيره في النهي عن صحبتهم لأنها توجب: "تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا، تروق للناظر، وتسحر القلب، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية".
الوقفة السادسة/ لا تتكبر ولا تترفع عن أهل الخير والصلاح مهما ارتفعت مكانتك وعز جاهك ومهما بلغوا من الضعف والفقر، ففي صحبتهم من الفوائد الجليلة ما لا يخفى عن عاقل من تذكير بالله والحياة الأخرى، وهل أدل على ذلك من توجيه الأمر للنبي الكريم لصحبة هؤلاء الأخيار ومجاهدة النفس على ذلك وهو صلى الله عليه وسلم الأعز قدراً والأرفع جاهاً فإن ذلك في حقنا أولى وأوجب.
الوقفة السابعة/ ملازمة العبد لذكر الله ووصل حياته بموجدها ومسببها وجعل الله تعالى غايتك ومقصدك في ذلك، فهؤلاء الصالحون الذين أمر الله نبيه برفقتهم وصفهم جل شأنه بأنهم على دوام للذكر، فقد جاء في تفسير الرازي: "في قوله تعالى: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وجوه:
الأول/ المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل: ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس.
الثاني/ أن المراد صلاة الفجر والعصر.
الثالث/ المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه" (مفاتيح الغيب).
وعلى هذا فإن على المسلم الذي فقه معنى الحياة وحقيقتها أن يسعى في مناكبها فيما يخدم حياته الخالدة الأبدية، فلا تغره مظاهر الأمور وتعميه عن حقيقتها وأن يتحرى الفوز والفلاح، فلا يعمّر دار العبور وينسى دار القرار، والكيّس من اتخذ من كلام ربه وسنة نبيه معياراً يزن به أموره فلا يضل ويحذو حذو نبيه الأكرم فيكون أسوته وقدوته، ويتخيّر صحبته كما يتخير أطايب غذائه وشرابه فلا يكون كلب أصحاب الكهف أكيس منه وأهدى سبيلا، وقد كرم الله الإنسان وجعل له نوراً فلا يطمس نوره بحجاب الغفلة وحب الشهوات وشراء الدنيا والآخرة فتكون الندامة والخسران النتيجة الحتمية لغفلته وضلاله، واستعن بالله ولا تعجِز فما الحياة الدنيا إلا دار الغرور: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].