مبدأ حل معضلة حلاوة العبادة وأثرها، الفصل بين جهة العبادة وجهة التعبّد، فجهة العبادة متفرعة من جهة الرب تبارك وتعالى، ومقتضاها أن يعتقد المسلم في أثر العبادة ونورها وبركتها وجدواها لأنها عبادة قررها الله تعالى، وأخبرنا الله ورسوله عنها.
فالقرآن شفاء والصوم جُنَّة والصلاة نور والذكر أُنس والصبر ضياء... فلا يشكّك العبد أبداً في أثر أو جدوى العبادة من جهتها، مهما كان في جهته هو عقبات أو موانع تحول بينه وبين استشعار ذلك الأثر والاغتراف من ذلك النور، بل المثابرة على العبادة بيقين في أثرها هي من شأنه أن يجلو تلك الموانع والحوائل من جهته هو، ومقتضاها كذلك أن يعتقد العبد لزومها له وحاجته إليها، ويؤدي فرائضها وواجباتها على الأقل أداء مُكَلَّف عاقل يعي مسؤوليته ويمتثل لحق الربوبية عليه ومقتضى العبودية منه، ولو لم تحضره رغبة الأداء أو لم تَقُم في نفسه رهبة التفريط كما ينبغي وجدانيّاً، مع العلم أنهما بتوفيق الله يحضران مع المِران ودوام استحضار تلك المعاني عقليا.
وأما جهة التعبّد فهي متفرعة عن جهة العبد، وتختصّ بجهوده ومنهجه في ترتيب أوراده وعباداته، من ذلك مثلاً: صلاة الفريضة على وقتها أو تأخيرها قليلاً أو كثيراً، عدد ركعات النافلة وأوقاتها، عدد التسبيحات اليومية وأنواعها (استغفار، حمد، تهليل... إلخ) وهذه الجهة هي التي يحقّ للعبد أن يسائل جدواها ويراجع أثرها ويقوّم منهجها، بناء على قصده مما يرتب لنفسه من أوراد، مثلاً من جعل لنفسه ورد 1000 تسبيحة يوميّاً، ثم وجد أنه يستثقل وقت الذكر أو يتهرب منه أو يضيّعه فترة، عليه أن يراجع أولاً قصده في ترتيب ورد ذكر لنفسه، ومدى علمه بفضائل الذكر عامة والذكر المخصوص الذي اختاره خاصة (فضل التسبيح أو التهليل مثلاً)، ثم يراجع منهجه: كمّاً وكيفياً وتوقيتاً، فقد يكون الأنسب توزيع الذكر على مدار اليوم لمن يملّ أو يسرح سريعاً، أو يكون جمعه في وقت صفاء مُختار بعد الفجر قبل أشغال اليوم أو بعد المغرب عند الفراغ منه، وقد يكون الأنسب البدء بكمّ أقل (100 مثلاً) ثم التدرج في زيادته أسبوعيّاً أو شهريّاً، وقد يسبّح البعض قاعداً في مكانه ليركّز أو يسبح آخر وهو يمشي أو يؤدي عملاً بشرط أن يكون تركيزه على الذكر ويكون ذلك العمل هو الثانوي غير المتطلب للتركيز... وهكذا.
وعلى المتعبّد أن يضع في اعتباره أمرين:
الأول/ لزوم المصابرة والمثابرة على التعبد حتى يثمر الأثر المرجوّ بوصل العبد بنور العبادة، ومما يلزم الصبر عليه ما فارق النقلة من اتباع الهوى لتنمية حسّ المسؤولية، واختلاف طعم كلٍّ، ويلزم الصبر كذلك مراعاةً لمدى استحواذ عالم المشهود والمحسوس على حواسنا الظاهرة (الجوارح)، خاصة مما يَرِدُ علينا منافذ شهوات السمع والبصر والأكل، حتى ضعفت فينا طاقات الاتصال بعالم الغيب والصبر على بناء صلة مع جهة لا تبلغها الحواس الظاهرة بل الباطنة (الفكر والوجدان)، فالتركيز - مثلاً - مع مسلسل تشاهده أمامك مباشرة - مهما كان مُمِلّاً - أيسر بكثير من جمع تركيزك على ذكر ربك الذي لا تشهده عياناً.
الثاني/ لا جدوى من التعنت بإلزام النفس -خاصة إذا كانت معتادة للدلال واتباع الهوى- كمّاً كبيراً من العبادات في فورة حماسة التخطيط النظري، فيتحول التطبيق العملي للتعبّد إلى قائمة من المهام المُرقّمة على عدّاد إنجاز وسباق "إنهاء" والسلام، ومن ناحية أخرى، لا بد من قَدْرٍ من الحزم مع النفس وإلزامها ما يُصلِحها وإن لم يكن مفروضاً شرعاً ؛ لأنه فرض تزكية لمن شاء أن يتزكى، بهذا يكون المتعبد في ترقٍّ دائم وإن ببطء، وتكون المداومة على القليل باباً لفتح كثير لا قفلاً على روتين راكد!
لا جدوى من التعنت بإلزام النفس كمّاً كبيراً من العبادات في فورة حماسة التخطيط النظري، فيتحول التطبيق العملي للتعبّد إلى قائمة من المهام المُرقّمة على عدّاد إنجاز وسباق "إنهاء" والسلام
ولأننا لا نفصل الجهتين، نتكدّر في محاولات الالتزام لاشتغالنا بأثر التعبّد للدرجة التي تُعمِينا عن شهود نور العبادة، ونشكك في جدوى العبادة بذاتها حين لا نجد لتعبّدنا أثراً!
فإذا استحضر العبد أنّ الله جعل العبادة نوراً والنور في العبادة، ثم أيقن بذلك، أقبل عليها إقبال المُغترف من نورها فخرج منها بخيرٍ مما دخل فيها قَطْعاً، لكننا ندخل على العبادة دخول المتشكّك في أثرها، أو المُستعظم لقَدْر الظُّلمة في نفسه أن تنفع العبادة في جلائها شيئاً فشيئاً، أو المُتشرِّط على الله ثمنَ تعبُّدهِ بذوق الحلاوة ليقتنع أو "يتحفّز" على الاستمرار فيها... أو غير ذلك من النفسيّات المضطربة، المخالفة لما تكون عليه نفسيّة العبد، ولذلك نعاني في تعبّدنا على الدوام من التململ سريعاً، والانقطاع كثيراً، وضَعف الصبر وعدم المثابرة غالباً، وتشتت الخواطر وغفلة الأداء عادة، وسرحان الفكر وكسوف البال عامة... وغير ذلك من الأعراض المقبولة بوصفها طارئة حيناً بعد حين، لا مُقيمة معنا على الدوام كلّ الحين!
ولا بد من التفرقة في هذا المقام بين عبادة اللَّذة ولَذَّة العبادة، وهو كالفرق بين عبادة المصلحة والتعبد بالمصلحة، فالأُوُلَيَان يقومان على تعليق العبادة بمرادك الشخصي وعلى الهيئة التي تتصورها، فإذا لم يتأتيا اعتبرتَ أنّ تعبدك لا جدوى منه، وقد يدفعك ذلك للتفريط في العبادة بأقدار، أما الثانيان فيقومان على إدراكك لمقتضى عبوديتك، وهو تعلّق العبادة بذمتك دون شرط أو قيد منك من جهة، ودون مانع من اندراج أطماع مشروعة لك فيها من جهة أخرى، والعبد يُقبِل على العبادة بنفسيّة الذي يمتثل لمولاه بما أمَرَه ويتقرّب إليه بما أخبره أنه يحبه، فيَعي أنه ليس من يتفضل وإنما ربه المُتفضِّل عليه إذ أقامه في طاعة، وأنه غير مستحقٍّ لأيّ مردود وإن كان مولاه يكرمه بما يأذن به من نَفَحات، والعبد يُقبل على العبادة إقبال المتيقن أنّ نورها فيها وأنه يغترف منه، وإن حال بينه وبين استشعار "الحلاوة" حائل ما، أما نفسيّة غير العبد فهو الذي يُقبِل على العبادة متأثراً بشرائط الوعظ والدعوة التي أسرفت في الحديث عن حلاوة العبادات والقرب من الله، فجعلت تلك الحلاوة وتحصيلها هي غاية العبادة وأمارة التعبّد، فمن لم يحصّلها شكّ في صحة عبادته أو جدواها، أو فترت همّته عن المداومة والمصابرة، ومن حصّلها فهو الفائز المقبول! مع أنّ العبد قد يحصِّل لذة العبادة ببساطة لتوافقها مع أمر يحبه، أو لاستشعاره الراحة الفوريّة المصاحبة عادة لعمل الخير عامة!
لذلك حذار من نفسيّة المتاجرة والمعاوضة مع الله، فلا يكُن حصول الحلاوة وذوق اللذة هو جُلّ غايتك من العبادة ومقياسك لتعبّدك، بل غايتك هي ذات العبادة، ثم الأذواق أحوال، ومقياس صحة عبادتك صحة أدائها وفق شرعها، وخلوص نيّتها، والإقبال عليها إقبال عبد مفتقر، طامع لا متشرّط، وطالب من الله لا مُمْتنٍّ عليه، ولا علامةَ قطعيّة في الدنيا بقبول كلّ عبادات عبد وحبوط عبادات آخر، بل ذلك غَيْب عن العِبَاد تماماً لحكمة وطبيعة الاختبار، ليظلّ المؤمن في تعهد ومصابرة، وتقلّب بين الخشية والرجاء.
لا علامةَ قطعيّة في الدنيا بقبول كلّ عبادات عبد وحبوط عبادات آخر، بل ذلك غَيْب عن العِبَاد تماماً لحكمة وطبيعة الاختبار، ليظلّ المؤمن في تعهد ومصابرة، وتقلّب بين الخشية والرجاء
أمّا الفتوحات الربانية فهي كما يدلّ اسمها ربانية، أي أنّ الرب ينزلها على من يشاء وقت يشاء، فليس من شأن العبد الاشتغال بحسابات الملك، وإنما الرجاء في فضله واليقين فيه بما هو تعالى أهله، وليس من شأن العبد تشرط تلك الفتوح، بل الطمع فيها والتشوّف إليها، مع الاستمرار في إتقان ما عليه من التزام التكليف ما أحياه الله، وما يدريك لعلّ الله يدخر لك من الفتح الأعظم ما تتمنى معه لو أنك لم تُوَفَّ منه في الدنيا شيئاً!
ختاماً، وَطّن نفسك على رحلة مستمرة واصبر ولا تبرح ، واصبر صبر العبد المتذلل المفتقر المحتاج، لا صبر المتفضّل المُتململ على حَرْف، وأَقبِل على العبادة بنفسيّة الممتثل لتكليفها والمُقدّر لمسؤوليتها والمُغترف من نورها، لا المتشكك في أثرها المُتطلّب للبرهان على جدواها!