إن كلمة #الشقاء -حين نسمعها- تلقي في النفس بظلال الشؤم والحرمان والطرد والإبعاد، والشقي يعيش منبوذاً يتجنبه الناس مخافة شره وشؤم مخالطته.
إن الشقي يرتكب من الذنوب والمعاصي ما يُحرم معهما التوفيق في دنياه، فلا تجده يعيش إلا "مَعيشة ضنكاً"، ويُحرم معهما الهداية، ويختم له بسوء العاقبة وسوء المنقلب وبئس المصير. والشقي يُسرف على نفسه في ارتكاب المعاصي فتراه لا يستمع لنصيحة الناصحين، ولا يرتدع من تهديد ووعيد رب العالمين، حتى ينتهي أجله وهو على هذه الحالة فيكون من الخاسرين.
قال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون: 105، 106]، يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي: قد قامت علينا الحُجَّة، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها، فضللنا عنها ولم نرزقها".
ولشؤم الشقاء وسوء عاقبته أمرنا النبي ﷺ أن نتعوذ منه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِن جَهْدِ البَلاءِ، ودَرَكِ الشَّقاءِ، وسُوءِ القَضاءِ، وشَماتَةِ الأعْداءِ" (صحيح البخاري)، قوله ﷺ: "ودَرَك الشقاء" يعني: وأجِرني من أن تلحقني مشقّة وهلكة في دنياي أو في آخرتي.
موانع الشقاء
من رحمة الله تعالى بعباده أنه سبحانه جعل لكل ذنب توبة ولكل معصية ما يُعين على اجتنابها والإقلاع عنها ، ورد في القرآن الكريم موانع عدة للشقاء من التزم بها وقاه الله تعالى مَغبة الشقاء.وسوف نتناول هذه الأمور حسب ورودها في القرآن الكريم مع التعليق المختصر على كل مانع منها، وقانا الله وإياكم دَرك الشقاء:
المانع الأول/ الدعاء
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4]، يؤكد نبي الله زكريا -عليه السلام- أنه من فضل الله تعالى عليه أنه لم يَرُد دعاءه، ولم يُخيِّب رجاءه فيما مضى، ويتوسل إليه سبحانه أن يُتم نعمته عليه ويستجيب لدعائه وأن يرزقه الذرية الطيبة، قال الثوري: "وبلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة"، جاء في تفسير القرطبي: "قال العلماء: يُستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه، وما يليق بالخضوع؛ لأن قوله تعالى: "وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" فيه إظهار للخضوع إليه، وقوله: "وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً" إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته؛ أي لم أكن بدعائي إياك شقياً، أي لم تكن تخيِّب دعائي إذا دعوتك، أي إنك عوَّدتني الإجابة فيما مضى".
وقال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} [مريم:48]، لقد اعتزل نبي الله إبراهيم -عليه السلام- قومه بعد أن لجّوا في طغيانهم، ولدّوا في خصومتهم، وعَتوا عن أمر ربهم، بعد أن استفرغ نبي الله إبراهيم جهده مع قومه ولم يُجدِ ذلك معهم نفعاً اعتزلهم وشرع في الدعاء، والدعاء هنا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة، عسى أن يتقبل الله جهده، وعسى أن يرضى عنه ويكتب له القبول فلا يشقى مع من كُتب عليهم الشقاء، ذكر الإمام القرطبي في تفسيره: "أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلاً وولداً يتقوى بهم، حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه".
ولكي يكون الدعاء نافعاً ناجعاً مُستجاباً لابد من توفر شروطه ، قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: "شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال".
وقال أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: "إذا أردت أن يُستجاب لك أسرع من لمح البصر، فعليك بخمسة أشياء: الامتثال للأمر، والاجتناب للنهي، وتطهير السر، وجمع الهمة، والاضطرار"، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله".
المانع الثاني/ بر الوالدة
قال تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم:32]، جاء في تفسير الإمام ابن كثير: "وقال بعض السلف: لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً، ثم قرأ: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}"، قال قتادة: "ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمه والأبرص، في آيات سلطه الله عليهن، وأذن له فيهن، فقالت: طوبى للبطن الذي حملك وللثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى -عليه السلام- يجيبها: طوبى لمن تلا كلام الله، فاتبع ما فيه ولم يكن جبَّارا شقيَّاً".
عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللَّهَ حرَّمَ عليكم عقوقَ الأمَّهاتِ، ومنعاً وَهاتِ، ووأدَ البناتِ وَكرِه لَكم: قيلَ وقالَ، وَكثرةَ السُّؤالِ، وإضاعةَ المالِ" [رواه البخاري]، وكان حيوة بن شريح - وهو أحد أئمة المسلمين - يقعد في حلقته يُعلم الناس، فتقول له أمه: "قم يا حيوة، فألق الشعير للدجاج، فيقوم ويترك المجلس ويفعل ما أمرته أمه".
المانع الثالث/ القرآن الكريم
قال تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [طه:1-3]، يقول الإمام السعدي رحمه الله: "{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} أي: ليس المقصود بالوحي، وإنزال القرآن عليك، وشرع الشريعة، لتشقى بذلك، ويكون في الشريعة تكليف يشق على المكلفين، وتعجز عنه قوى العاملين، وإنما الوحي والقرآن والشرع، شرعه الرحيم الرحمن، وجعله موصلاً للسعادة والفلاح والفوز، وسهَّله غاية التسهيل، ويسَّر كل طرقه وأبوابه، وجعله غذاء للقلوب والأرواح، وراحة للأبدان، فتلقته الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان؛ لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة".
وعن الضحاك قال: "لما أنزل الله القرآن على رسوله، قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى! فأنزل الله تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}"، وقال قتادة: "{مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونوراً، ودليلاً إلى الجنة"، ويقول الإمام القرطبي: "فمعنى لتشقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا"، يقول عبد الحميد باديس رحمه الله: "فوالله الذي لا إله إلا هو، ما رأيتُ - وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب - أعظم إلانة للقلب، واستدراراً للدمع، وإحضاراً للخشية، وأبعث على التوبة، من تلاوة القرآن وسماعه".
المانع الرابع/ اتباع الهدى
قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، إن من يتبع ما أمر الله تعالى به، ويجتنب ما نهى عنه، فإنه لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، كما قال ابن عباس رضي الله عنه، وإن اتباع الهدى يكون بالتصديق والانقياد وحسن التطبيق، ويكون كذلك بعدم مُعارضة ما أنزل الله تعالى، لا بشبهة ولا بشهوة.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله في الدنيا من الضلالة، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}"، وقال الشعبي عن ابن عباس: "أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة، وقرأ هذه الآية".
المانع الخامس/ خشية الله تعالى
قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 9-13]، نزلت تلك الآيات في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة، ومعناها: "ويتجنب الذكرى ويبعد عنها الشقي الذي كتب الله تعالى في سابق علمه أنه من الأشقياء، فلا تنفعهم الدعوة ولا تُجدي معهم التذكرة".
إن الخشية تعين القلب على الذكر فلا يشقى صاحبه أبداً، والغفلة تشغل القلب عن الذكر وتجعله يبغض أهل الذكر ويتجنبهم وهذا من أكبر مُوجبات الشقاء ، وإن الخشية كانت السبب الذي به فرَّج الله تعالى كرب الثلاثة الذين دخَلوا كهفَ جَبلٍ فانحطَّ عليهم حجَرٌ فسدَّ بابه، لقد دعوا - هؤلاء الثلاثة - اللهَ بأوثَقِ أعمالِهم التي ما فعلوها إلا خشية من الله تعالى.المانع السادس/ التقوى
قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 14-17] عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمداً ﷺ"، وكلام ابن عباس - رضي الله عنه - ينطبق على من ذكرهم خاصة، وعلى كل من هم على شاكلتهم عامة، وإن الشقي هنا هو من كذَّب بما جاءت به الرسل، وتولى عن التصديق بهم والاستجابة لأمرهم، على عكس التقي الذي يتقي الله تعالى في كل شؤونه كبيرها وصغيرها.
قال ابن رجب رحمه الله: "وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعِقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه".
وختاما ً..
أذكِّر بقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106- 108].
الله أسأل أن يكتب لنا وإياكم سعادة الدارين ويجعلنا جميعاً من الفائزين