لقد جرت سُنة الله تعالى أن الأيام دُول والمعركة سِجال بين الحق والباطل، كما جرت سُنة الله تعالى التي لا تتغير ولا تتبدل أن الغلبة تكون لعباد الله الصالحين، والنصر والتمكين لأوليائه المتقين.
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].
وجرت سُنة الله تعالى أن هذا النصر لا بد له من ضريبة تُؤدى وكيلٍ يُوفى لكي يكون نصراً عزيزاً، ولكي يكون لمن يستحقونه ويعرفون قدره فيعضوا عليه بالنواجذ ، ويعرفوا أن الله تعالى ما نصرهم ومكَّن لهم إلا لينصر بهم دينه، وليقيم بهم شريعته، وليهزم بهم عدوه وعدوهم.
أولاً/ حاجة البشرية لرسالة الحق الربانية
إن ما يجعلنا نؤمن إيماناً لا شك فيه أن دعوة الحق ستنتصر، وستعلو رايتها، وأنها ستنتشر في الدنيا كلها هو:
1. أن دعوة الإسلام دعوة ربانية تنسجم مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
2. وأن دعوة الإسلام تحرر النفس من قيود الخضوع والاستعباد.
3. وأن المؤمنين بدعوة الإسلام والدعاة إليها لا يبغون مغنماً شخصياً ولا دنيوياً ولكن يبغون وجه الله تعالى ومثوبته وواسع فضله في الآخرة.
4. وأن الله تعالى هو الذي وعد بالنصر وحاشاه - سبحانه - أن يخلف وعده أو أن يخذل أولياءه.
5. أن أهل الدنيا في تخبط وشتات وحيرة بل وبؤس شديد ولا مخرج لهم من كل ذلك إلا بالإذعان لدعوة الحق، وأن ما يحدث من أئمة الكفر وأكابر مجرميها من مخططات ومكر وكيد ما هو إلا محاولة منهم لتأجيل هذه اللحظة وليس لتعطيلها.
ثانياً/ دور المسلمين في استجلاب النصر والتمكين
إن من يتتبع آيات النصر والتمكين في القرآن الكريم يجد أن نصر الله تعالى للمؤمنين لا يكون صُدفة، ولا ضربة من ضربات الحظ .إن نصر الله تعالى لا بد أن يسبقه ابتلاء يختبر الله تعالى به إيمان عباده -وهو سبحانه بهم وبإيمانهم عليم- وتمحيص ينفي عن الصف المسلم ما به من خبث، حتى إذا جاء نصر الله تعالى استقبله المؤمنون بإيمان راسخ، وعقيدة لا تميد ولو مادت الأرض ومادت الجبال الرواسي.
إن نصر الله تعالى لا بد أن يسبقه ابتلاء يختبر الله تعالى به إيمان عباده -وهو سبحانه بهم وبإيمانهم عليم- وتمحيص ينفي عن الصف المسلم ما به من خبث، حتى إذا جاء نصر الله تعالى استقبله المؤمنون بإيمان راسخ، وعقيدة لا تميد ولو مادت الأرض ومادت الجبال الرواسي
جاء في كتاب الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله، قال: "سأل رجل الشافعيَّ فقال: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى؛ فإنَّ الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فلمَّا صبَروا مكَّنهم، فلا يظنن أحَد أن يخلص من الألَم البتة".
إن للمسلمين دوراً كبيراً في استجلاب النصر والتمكين، وهذا الدور يتلخص في:
1. أن يوقن كل فرد مسلم أن عليه دوراً لا يُختزل ولا يسقط عنه في استجلاب هذا النصر، وأن هذا الدور يُحتِّم على كل مسلم مسؤولية إصلاح نفسه إصلاحاً شاملاً عميقاً دقيقاً يُؤهله لاستجلاب النصر وتحمل تبعاته.
2. أن توقن الأمة بأكملها أن النصر لن يتحقق إلا بعد أن تنفد كل الأسباب، وتستفرغ كل الحيل، وتستنهض كل الطاقات، وتستغل كل الإمكانيات، وتتضافر كل الجهود، وتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من قوة لكي تؤدي الدور المنوط بها دون كسل ولا فتور ولا تراخ، حينها نكون أمام منظومة قوية ومتكاملة ومتجانسة ومؤهلة لحمل الأمانة والقيام بتبعاتها.
3. أن يوقن الجميع أفراداً وجماعات أن الجهد المبذول قبل تحقيق النصر هو الوقود الذي يُحركه بعد أن يأذن به الله تعالى ، حينها لن يبخل فرد ولا جماعة ولا مؤسسة ولا هيئة ببذل أي جهد؛ ليقين الجميع أنه جهد مُدَّخر وأنه لن يضيع سُدى.
4. ألا ينسى الجميع أن مجرد ممارسة أحداث المواجهة بين الحق والباطل وما يعتريها من تناقضات وتقلبات وانتصارات وانكسارات وأفراح وأتراح وتضحيات وقروحات، كل هذه الأمور تعمل على صقل الجانب الوجداني، واجتياز الخلافات، وتصفية النفوس، وسد الثغرات، والتحام الصفوف، كما تعمل على التضرع إلى الله تعالى والانكسار بين يديه سبحانه، وكلها تحقق تمام العبودية، وتسمو بالروح فلا ترضى لنفسها عبودية إلا لله، ولا انكساراً إلا في محراب الصلاة.
من أجل هذا كله جعل الله تعالى دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم وبأنفسهم، ولم يجعل النصر هبة تهبط عليهم من السماء بغير عناء فيضيع سريعاً كما جاء سريعاً.
ثالثاً/ ثوابت في فقه المواجهة بين الحق والباطل
حين أمرنا الله تعالى بالدعاء أخبرنا بأنه سبحانه وتعالى قريبٌ مُجيب، وأمرنا أن ندعوه سبحانه ونحن موقنون بالإجابة، كما أمرنا ألا نستبطئ الإجابة ولا نتعجلها، كذلك يجب أن يكون الحال عند المواجهة بين الحق والباطل.
على الصف المسلم أن يُوقن أن الله تعالى هو الذي يدير الصراع بين الحق والباطل، وأن نهايته ونتيجته تكون بحكمة ولحكمة لا يعلمها إلا هو، وأن كل ما علينا هو أن نرضى بحكمه ونسلم لقضائه .إن من الثوابت المهمة التي يجب التسلح بها عند المواجهة بين الحق والباطل، ما يلي:
1. أن النصر لن يتحقق إلا بعد أن يستنفد أهل الإيمان كل الأسباب المادية والمعنوية المطلوبة منهم ، حتى إذا أذن الله تعالى بالنصر علم الجميع أنه لا فضل لأحد فيه سوى الله وحده فازدادوا بالله إيماناً وعليه توكلاً، ولم يجرهم النصر إلى بطر ولا جور بل يستقيم الجميع على الجادة ليحفظ الله عليهم النصر الذي رزقهم إياه.
2. أن يعلم الجميع أن النصر لن يتحقق إلا إذا كان خالصاً لله، ونصرة لدينه، وتمكيناً لشريعته. وعلى الجميع أن يوقنوا أن أي صراع للحق مع الباطل إذا خالطه انتقام أو تشفٍ أو عصبية أو غير ذلك فهو أبتر وأن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، وما نتيجة غزوة حنين عنا ببعيد.
على الجميع أن يوقنوا أن أي صراع للحق مع الباطل إذا خالطه انتقام أو تشفٍ أو عصبية أو غير ذلك فهو أبتر وأن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً
3. أن يكون الجميع على يقين أن التمحيص يشمل أهل الباطل كما يشمل أهل الحق، فالله تعالى يُمحص أهل الحق لينفي عنهم خبثهم وكذلك يمحص أهل الباطل حتى يستنفدوا كل ما بداخلهم من خير، حينها يأخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر غير مأسوف عليهم من أحد ولا مخدوع بهم أحد، وحينها لا يكون لهم شفعاء يشفعون لهم ولا مترحمين يترحمون عليهم، وحينها تشرق الأرض بنور ربها فتطهر ما أفسده الطغاة، ويرضخ الناس للحق رضوخاً، ويدخلون في دين الله أفواجاً.
4. إن من يقين أهل الحق بنصر الله تعالى لهم أن يُحسنوا التخطيط لما بعد المواجهة والنصر كما أحسنوا التخطيط للمواجهة. على أهل الحق أن يضعوا كل التصورات ويتوقعوا كل ردود الأفعال الممكنة والمحتملة، فلا ينخدعوا بالنصر ولا ينشغلوا عن الميدان فيكون حالهم كحال الرماة في غزوة أحد!
5. اليقين بأن سُنة الله تعالى في الخلق لا تحابي أحداً فليس مجرد اتباع الحق يكون سبباً للنصر، ولا مجرد الخوض مع الباطل يكون سبباً للهزيمة، فكما قيل: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة.. ويهزم الدولة الظالمة وإن كانت مُسلمة"، وقيل: "النصر للأتقياء فاِن غابت التقوى.. فالنصر للأقوياء".
ليس مجرد اتباع الحق يكون سبباً للنصر، ولا مجرد الخوض مع الباطل يكون سبباً للهزيمة
إن بني إسرائيل عندما تمردوا على نبي الله موسى -عليه السلام- ابتلاهم الله تعالى بتسع آيات وهي: "الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم واليد والعصا والأخذ بالسنين ونقص الثمرات".
وعندما تمردت قريش على النبي ﷺ دعا عليهم وقال: "اللهم اشدُدْ وطأتَك على مُضرَ وخذْهم بسنين كسِني يوسفَ" فابتُلوا بالجوعِ حتى أكلوا الْعِلْهِز أي: الوَبَرِ بالدم، وحتى ذهب أبو سفيانَ بنُ حربٍ إلى رسولِ اللهِ ﷺ فقال: "يا محمدُ! أنشدُكَ اللهَ والرحِمَ"، طالباً من النبي ﷺ أن يكف عن الدعاء عليهم فأنزل الله تعالى قوله: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون".
ويوم حنين أعجب المسلمون بقوتهم وظنوا أنهم لن يُهزموا من قلة فما أغنت عنهم كثرتهم من الله شيئاً. قال تعالى: {... وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:25].
وفي عهد الدولة الفاطمية انتشرت البدع والضلالات ونحي المذهب السني واستبدل بالمذهب الشيعي، فكان عقاب الله تعالى لهم أن جف النيل عن مصر سبع سنين عرفت بالعجاف وكان ذلك في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، لذلك سميت هذه السنين العجاف بـ (الشدة المستنصرية) وكان من مظاهرها أن:
• غاب النيل فتصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل.
• أكل الناس القطط والكلاب.
• سرق الناس بغلة وزير الخليفة وأكلوها.
• جاع الخليفة نفسه حتى أنه باع ما على مقابر أبائه من رخام ليأكل.
• كان أفراد الأسرة يأكلون لحم من يموت منهم.
• … إلخ من الشدائد التي لم تشهد مصر قبلها ولا بعدها إلى يومنا هذا.
اللهم اكتب لأمة الإسلام نصراً عزيزاً وأذن لشرعك أن يسود واجعلنا له جنداً مخلصين