تُعد قضية #الحقوق و #الواجبات من أهم القوانين التي وضعها اللهُ تعالى في العمران والاجتماع الإنساني؛ فهي تساوي في أهميتها القوانين المادية التي وضعها جلَّ وعلا في خلق الكون، لضمان تحقيق التوازن الذي هو أساس الاستقرار بالمعنى الشامل لمفهوم الاستقرار الذي يشمل التناغم والتناسق بما يضمن الاستمرارية إلى أن يشاء اللهُ تعالى.
وبالتالي؛ فإن هذه القوانين مثلها مثل قوانين الاستطاعة والملاءمة والتدافُع، من الأهمية بمكان أن يكون الإنسان على إدراك وإلمام بها، وبكيفية تفعليها، من أجل أن تستقيم حياته على الطريق السليم، ويتحرك فيها بالرشادة اللازمة لتفادي حصول مشكلات وأزمات تقوده إلى خسائر عظيمة.
ويرتبط كلا المفهومَيْن (الحقوق والواجبات) بقضية مركزية في الإسلام، وفي مختلف الديانات والأيديولوجيات الوضعية الأخرى، وهي قضية "الحق"؛ لأن واجبات الإنسان تجاه الآخرين تعني من زاوية أخرى، حقوقهم عليه.
ولـ"الحق"، الكثير من التعريفات بحسب الاقتراب الذي يتم من خلاله تعريفه. ولكنه بشكل عام يُعرَّف على أنه ما لا خلاف عليه، أو "الواجب الثابت والمؤكد"، وكذلك يعني في الجانب القانوني "قيمة معينة" أو "مصلحة يُخوَّل لصاحبها القيام بأعمال ضرورية لتحقيق هذه المصلحة"، ويتم إثباته له بمقتضى القانون، ويمنح لكافة الأفراد على حد سواء، ويكونوا جميعاً ملزمين باحترامه، وبالتالي ففي إحقاق الحق، بجانبَيْه، الحقوق والواجبات، مصلحة مشتركة للجماعة البشرية، فيعملون جميعاً على إقراره.
وهذا الكلام هو من الأمور العامة التي لا تخص المسلمين فحسب، وإنما تنسحب على سائر صور التجمعات الإنسانية، مثلما أن قوانين الرياضيات والفيزياء، وهي قوانين الخالق في خلقه، لا تتعلق بهندسة بناء المسجد وتوازن مأذنته وقُبَّتِه فحسب، وإنما بهندسة البناء بشكل عام.
فمن المعروف أن هناك دوائر ومجالات عديدة يتحرك فيها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، أولها، علاقته بربه، خالقه والقيوم على أمور عباده، والثانية، علاقته بذاته، والثالثة، علاقته بالآخرين من حوله، وصولاً إلى علاقته بالكون ومفرداته.
ولقد نزلت الشرائع، ووُضِعَتْ القوانين والفلسفات الوضعية، من أجل وضع تصورات مختلفة لكيفية فهم طبيعة كل طرف من أطراف هذه الدوائر، وكيفية إدارة العلائق معه.
وبطبيعة الحال تختلف التصورات والأحكام التي قدمتها الشريعة الإسلامية، والتصور الإسلامي بشكل عام؛ فالشريعة هي الأحكام بالأساس وجزء من العقيدة بينما العقيدة أو المنهج أوسع من ذلك، في مختلف هذه المسارات والدوائر عن تلك التي نراها في القوانين والفلسفات الوضعية.
ومن بين أهم الخصائص التي جاءت في التصور الإسلامي عن قضية حقوق وواجبات البشر إزاء بعضهم البعض، هو مراعاة الشارع الأعظم فيما فرضه علينا من تصورات وأحكام في مختلف الأمور، لنقطة شديدة الأهمية تؤكد أن منزِّل هذا الدين، وهذه الشريعة، إنما هو الخالق، وخالق واحدل هذا الكون، وهي نقطة ضعف البشر.
فبالنظر إلى ما جاء به الدين في هذا الأمر، سوف نجد أمرَيْن: تشديد الشريعة لأحكام الحقوق والواجبات إزاء البشر بعضهم البعض، وتشديد عقوبة ظلم الإنسان للآخر في أيٍّ من حقوقه التي فرضها اللهُ تعالى له، والتبكير بالمساءلة والعقوبة في الحياة الدنيا وفي القبر، حتى على رب العباد على عباده.
وهذا منطقه بسيط، فرب العباد لا حاجة له بالعباد، ولا ننقصه أي شيء بتقصيرنا في حقوقه على خلقه، وما افترضه علينا من واجبات وفرائض، لأنه هو الكامل العليم، والقوي القادر، والغني عن العالمين، لكن البشر وسائر مخلوقات اللهِ تعالى الأخرى التي افترض اللهُ تعالى لها حقوقاً علينا، مثل كل ذات كبدٍ رطبةٍ، ضعفاء، وبالتالي؛ وجبت لهم الحماية.
كما أنه لا يوجد مخلوق في هذا الكون يمكنه أن يمس منظومة الخلق التي أرادها اللهُ تعالى -كربٍّ لهذا الكون- ولكننا يمكن أن نظلم بعضنا بعضاً، وأن نمس منظومات بعضنا البعض الحياتية، المال والأعراض وغير ذلك.
وهو منهج مواكب للفطرة، ويؤكِّد أن الشريعة من لدن حكيم عليم، والذي هو أعلم بمَن خَلَق وهو اللطيف الخبير كما في القرآن الكريم، لذلك نجد هذا المنطق حاضراً وبقوة في منظومات القوانين الوضعية التي تميز المجتمعات المتقدمة في المجال الحضاري.
فلم يذكر التاريخ لحامورابي –مثلاً– أي شيء سوى أنه أول مَن وضع منظومة قوانين تضمن الحقوق والواجبات بشكل سواء بسواء لكل أفراد المجتمع.
وتتميَّز الشريعة الإسلامية وأحكامها -في هذا الصدد- كمنظومة من القوانين بالمعنى القريب، ومنظومة من القواعد والالتزامات السلوكية الفردية والمجتمعية بشكل عام، بالكثير من الأمور الأخرى في هذا الصدد، ومن أهمها أن الحقوق الفردية، لا تُفرَض لصاحبها لذاته، وإنما هي أحكام عامة لأجل المصالح العامة، وليس لمصلحة الفرد فقط، مما يمنعه من الاستبداد بها على الآخرين.
فالله تعالى لم يمنح الحقوق للبشر على بعضهم البعض، ولم يفرض عليهم واجبات إزاء بعضهم البعض، لمجرد أن يستعملها الإنسان للعلو على الآخرين أو التحكُّم فيهم ، ولو كان الموقف يفرض ذلك.تتميَّز الشريعة الإسلامية وأحكامها كمنظومة من القوانين بالمعنى القريب، ومنظومة من القواعد والالتزامات السلوكية الفردية والمجتمعية بشكل عام، بالكثير من الأمور الأخرى في هذا الصدد، ومن أهمها أن الحقوق الفردية، لا تُفرَض لصاحبها لذاته، وإنما هي أحكام عامة لأجل المصالح العامة، وليس لمصلحة الفرد فقط، مما يمنعه من الاستبداد بها على الآخرين
فهذه ليست عطيةً لك أو "مُكْنَة" بالمعنى القانوني والسياسي لمفهوم الحق، وإنما وُضِعَتْ هذه الأحكام، الحقوق والواجبات تجاه البشر وبين بعضهم البعض –كما تقدَّم– لتنظيم العمران الإنساني بمُختلف صوره، وضمان استقرار المجتمعات، لا لتعظيم شخص بعينه.
الجانب المهم الآخر الذي يبرز إنسانية الشريعة ورحمتها في هذه الأمور، وهو أمر لا نجده في القوانين الوضعية، أن الشريعة قد وضعت لأحكام المروءة بُعداً شرعيّاً؛ فالمروءة، ومنها العفو، أسَّست لها الشريعة وضعيةً معترفاً بها، وقد يكون لها صفة الإلزام في بعض الأحوال.
وهذا قائم ولو في أهم الأمور التي وضعت لها الشريعة الإسلامية قيوداً مشددة وعقوبات مغلَّطة على مخالفتها، الدم والمواريث، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178]، ويقول سبحانه أيضاً: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:8].
وبالتالي فإن الحقوق والواجبات في الشريعة الإسلامية أوسع وأقيم من المفهوم القانوني الوضعي القاصر ؛ لأن "المُكْنَة" فيها شيءٌ غير يسير من التحكُّم في الآخر ولو على حساب إنسانيته.
ففي الشريعة الإسلامية يُمنَح الأمر جانباً مهمّاً مفقوداً في التصور البشري، وهو "أنسنة" الحق والواجب. أنت لست بذاتك ممنوح هذا الحق على الآخرين، إنما هي عملية تنظيمية بحتة أرادها اللهُ تعالى لتحقيق العدالة ومِن ثَمَّ الاستقرار.
ومقصود ذلك الرد على بعض الشبهات المثارة في هذا الصدد، حول مدى عدالة الشريعة الإسلامية، ومدى إمكانية مراعاتها لبعض أحوال الظرفية أو حقوق الإنسان.
وللأسف الشديد فإن جانباً مهمّاً من تلك الشبهات جاء بسبب الطريقة التي ينتهجها بعض المنتمين لمدارس فكرية وفقهية بممارسة حقوقهم تجاه الآخر الأضعف، بالذات في موضوع المرأة والمواريث، بطريقة تحمل الكثير من الاستعلاءً والجلافة في حق الآخر، وقد يكون فيه الكثير من العسف كذلك، تحت ستار أن هذا حكمٌ بحقٍّ شرعي.
هنا يجب أن يفهم هؤلاء أن هذا حكم اللهِ تعالى وليس حكمك أنت، وليس موضوعاً لك أنت بشكل خاص لتمجيد شخصك.