{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
لم أجد أفضل من هذه الآية الكريمة لكي أبدأ بها حديثي عن العلم؛ ففي هذه الآية تفضيل وتكريم وزيادة في الرفعة لهؤلاء الذين منَّ الله تعالى عليهم وآتاهم قسطاً من العلم فعملوا به كما يحب ربنا ويرضى.
إن الرِّفعة المذكورة في الآية قد ذكرت مُطلقة وغير مُقيَّدة، فهي:
رفعة في الدنيا ورفعة في الآخرة.
رفعة في الشأن ورفعة في المكانة.
رفعة مادية ورفعة معنوية.
رفعة لا تعترف بعمر ولا بمكان ولا بزمان.
رفعة تهابها العوام، وترتعد منها فرائص الملوك.
رفعة لا تحدها حدود ولا يعلم كنهها ولا حقيقتها ولا مقدارها إلا واهبها سبحانه وتعالى.
رفعة لا يعرف قيمتها إلا من وهبه الله إياها، ومن حُرم منها برغم امتلاكه الدنيا وملذاتها.
ولا يحق لنا أن نتعجب من كل ذلك؛ لأن (الفاعل) هو الله تعالى الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي يقول للشيء كن فيكون، والذي إذا أعطى أدهش كل الخلائق بعطائه.
أولاً/ أهمية العلم والدعوة لتحصيله
إن العلم بالنسبة للإنسان كالروح بالنسبة للجسد، فما قيمة الإنسان بدون علم يُهذِّب عقله، ويحفظ قلبه، ويُعرِّفه بربه، ويُنير دربه، ويؤنس وحدته ووحشته، ويجعل رأيه رشيداً، وسعيه سديداً، ويساعده في تهذيب أهله، وإرشاد غيره، ويمكِّنه من تحصيل رزقه، ويجعله بين الناس وقوراً، وحظه في الدارين موفوراً!
عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "فضلُ العالمِ علَى العابِدِ، كفَضْلِ القمرِ ليلةَ البدْرِ علَى سائِرِ الكواكِبِ" (صحيح الجامع) وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "يَشفعُ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ الأنبياءُ ثُمَّ العُلَماءُ ثُمَّ الشُّهداءُ" (الجامع الصغير بإسناد حسن).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - كان يقول: "اللَّهمَّ انفَعني بما علَّمتَني، وعلِّمني ما ينفعُني، وزِدني علماً" (أخرجه الترمذي وابن ماجه).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "عليكم بالعلم قبل أن يُرفع ورفعه موت رواته، فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، فإن أحداً لم يُولد عالماً وإنما العلم بالتعلم".
جاء في إحياء علوم الدين، أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "خُيِّر سليمان بن داود - عليهما السلام - بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه".
ثانياً/ نموذج من حرص النبي - ﷺ - على تعليم أصحابه
لقد حرص النبي ﷺ على تعليم الصحابة -رضوان الله عليهم- وتعليم غلمانهم فقد جعل النبي ﷺ فِدية من ليس معه ما يفتدي به نفسه من أسرى غزوة بدر، أن يُعلم عشرة من غلمان الصحابة القراءة والكتابة، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: "كان ناسٌ من الأسرى يومَ بدرٍ لم يكن لهم فداءٌ فجعل رسولُ اللهِ ﷺ فداءَهم أنْ يُعَلِّمُوا أولادَ الأنصارِ الكتابةَ قال: فجاء يوماً غلامٌ يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنُك قال: ضربني مُعلِّمي قال: الخبيثُ يطلبُ بِذَحْلِ (أي بثأر) بدرٍ واللهِ لا تأتيه أبداً" (مُسند أحمد بإسناد صحيح).
ولندرك مدى نجاح هذه الفكرة ومدى جدواها يكفينا أن نعلم أن الصحابي الجليل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كان من بين غلمان المدينة المنورة الذين علمهم أسرى بدر طلباً للفداء، وأصبح بعد ذلك من كُتاب الوحي، وشيخ المُقرئين، ومُفتي المدينة، وقال عنه النبي - ﷺ: "أفرضُ أُمَّتِي زيدُ بنُ ثابتٍ" (صحيح الجامع).
ولحرص النبي ﷺ على الإلمام بلغات وثقافات الأمم من حوله، وكي لا يصيب المسلمين مكر الأمم وكيدها، قال ﷺ : "إني ما آمن يهودَ على كتابٍ"، ثم أمر الصحابي الجليل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن يتعلم اللغة السريانية فكان إذا كتب النبي ﷺ إلى اليهودِ كتب زيد له، وإذا كتب اليهود إليهِ قرأ له كتابَهم.
من هنا نعلم أنه من الواجب على المسلمين أن يكون من بينهم من يتخصصون في مختلف اللغات والثقافات والعلوم وكل ما من شأنه تحقيق النفع والفائدة والرقي الحضاري.
ثالثاً/ الفرق بين علماء الأمة وعلماء الدولة
إن علماء الأمة كل هدفهم هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تكون الكلمة الأولى في كل قضايا المسلمين هي كلمة الشرع؛ فالشرع هو منهجهم وقبلتهم، يدورون معه حيث دار ، إن علماء الأمة لم يخلُ منهم عصر من العصور، وبمشيئته تعالى، لن يخلو منهم عصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن أمثلة علماء الأمة الذين لا يخلو منهم عصر من العصور: الأئمة الأربعة، الإمام ابن القيم، الإمام ابن تيمية، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، ... وغيرهم كثير، إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.إن علماء الأمة جعل الله لهم منعة وهيبة تجعل الناس يُوقرون صاحب العلم الذي يأخذ العلم بحقه ويوجهه لما فيه مصلحة دينه ونفع أمته وتقويم أمور المسلمين، وصاحب العلم يثق تمام الثقة أنه في معية الله تعالى فيزداد بالله أنساً، ومنه سبحانه وتعالى قرباً، ولا يخاف في الله لومة لائم، مهما أوتي لائمه من بطش وجبروت.
جاء في "قوت القلوب" أن سفيان الثوري كان مع المهدي، فكان بيد المهدي درج أبيض وقد أدخل عليه الثوري، فقال له: "يا أبا عبد الله أعطني الدواة حتى أكتب"، فقال: "أخبرني بأيّ شيء تكتب، فإن كان حقاً أعطيتك وإلا كنتُ عوناً على الظلم" أما علماء الدولة فهم علماء السلطان الذين حذَّرنا الشرع منهم؛ لأنهم يدورون في فلك الحاكم ورأيه وهواه، تتغير مواقفهم بتغير الحاكم، بل بتغير هوى الحاكم الواحد.
إن العالِم الذي يأكل بعلمه على كل الموائد، ويتقرب بعلمه إلى الملوك والسلاطين زلفاً، تجده بين الناس ذليلاً مَهيناً مُهاناً مُتخبطاً، فلا عزة ترفعه، ولا حكمة تمنعه، ولا قدرة تُحصِّنه، جاء في الإحياء أن نبي الله عيسى -عليه السلام- قال: "مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر، لا هي تشرب الماء، ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، ومثل علماء السوء مثل قناة الحش، ظاهرها جص، وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر، وباطنها عظام الموتى"، وقال سفيان بن عيينة: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى".
إن علماء السوء أضرُّ على الناس من إبليس نفسه؛ فالناس قد يحترزون من إبليس لعلمهم بعداوته، أما مع علماء السوء، فالناس يُسلمون لهم، ويسمعون منهم، ويثقون فيما يقولون ويفعلون، بل ويدافعون عنهم، فيزيغون، ويضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً.
إن العالِم الذي يأكل بعلمه على كل الموائد، ويتقرب بعلمه إلى الملوك والسلاطين زلفاً، تجده بين الناس ذليلاً مَهيناً مُهاناً مُتخبطاً، فلا عزة ترفعه، ولا حكمة تمنعه، ولا قدرة تُحصِّنه
وأخيراً أقول
إننا لن ننكأ الجراح، ولن نعدد المثالب والأدواء، ولن نبكي على أطلال مآسي أمتنا فكلها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار في يوم صائف، ولكن علينا أن نتذكر قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282] هذا ما يخص علوم الآخرة، أما بالنسبة لعلوم الدنيا، فلهوانها على الله تعالى فالناس فيها سواء، البار والفاجر والصالح والطالح، كل حسب بذله وسعيه.
وعلينا أن ندرك أن الدول المتقدمة ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا بالاهتمام بالتعليم بل والمنافسة في ذلك للحد الذي يجعل أي أمة تنسب نجاحها وإخفاقها للمعلم، ذكر أن إمبراطور اليابان عندما سُئل عن أسباب تقدم دولته في هذا الوقت القصير، فأجاب: بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، ومنحنا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير، كما ذكر أن القضاة في ألمانيا حينما طالبوا بمساواتهم بالمعلمين في رواتبهم، ردت عليهم المستشارة (أنجيلا ميركل) بقولها الشهير: كيف أساويكم بمن علموكم؟
وأقول:
إن الأمة المسلمة إذا أرادت التقدم والمدنية والحضارة، عليها أن تبحث عنهم في الفصول والمدرجات وجنبات المعامل والمختبرات.وإذا أرادت الأخلاقيات والفضائل، فعليها أن تبحث عنهم على المنابر وفي بطون الكتب.
وإذا أرادت ترسيخ الوحدة الوطنية وتماسك النسيج المجتمعي وتقوية الروابط والعلاقات، فعليها أن تبحث عنهم في أصول الدين، وأن ترفع من شأن الدعاة الصالحين المُخلصين.
وإذا أرادت صلاحاً وإصلاحاً في كل مجالات الحياة، فعليها أن تُبجل أرباب كل مجال من المجالات البناءة النافعة، وأن توفر لهم كل عون مادي ومعنوي، وأن تحث على طاعتهم طاعة التلميذ لمعلمه والابن لأبيه، حينها، وحينها فقط، تكون الأمة قد بدأت تسلك الطريق الصحيح.
اللَّهمَّ انفَعنا بما علَّمتَنا، وعلِّمنا ما ينفعُنا، وزِدنا علماً