جعل اللهُ تعالى شهر رمضان موسماً للعبادات والطاعات، ولصلة الأرحام، وتحسين علاقتنا بالقرآن الكريم، إلا أنه -ومنذ عقود قريبة- تحوَّل الشهر الفضيل على أيدي الحكومات العربية، ثم على يد الشركات الكبرى العاملة في مجال الدعاية والإعلان والإنتاج الفني مما لا يهمها من القيم شيءٌ سوى الربح، تحول الشهر الكريم إلى موسم للدراما والإنتاج التليفزيوني.
وتعددت القضايا والمشكلات المرتبطة بهذا الأمر، ما بين ما هو سياسي، وما هو أخلاقي، وما يتعلق بالنواحي الخاصة بتعطيل الناس عن إتيان الأمور الأصيلة الخاصة بشهر رمضان، وهي العبادة بصورها المختلفة، وتحسين مستوى التواصل بين الناس.
والإنتاج الدرامي التليفزيوني هذا العام، لم يكن بِدْعاً من ذلك، ومن بين ما حمله إلينا من قضايا إشكالية، ما يتعلق بالكيان الصهيوني والصراع القومي والديني بين العرب والمسلمين وبين الكيان وقوى الاستعمار العالمي التي تسانده.
ولا نقول هنا عمداً القضية الفلسطينية، وإنما نقول الكيان الصهيوني والصراع معه لأسباب سوف نعرفها تالياً، تخدم الرؤية التي نسعى لإيصالها من خلال هذا الموضع من الحديث.
كان للكيان الصهيوني والقضايا السياسية ذات الصلة بالصراع معه، مثل قضية احتلال الأرض، والتطبيع، والفوضى التي يرعاها الكيان الصهيوني بين ظهرانينا استتاراً بجماعات مجهولة النشأة تلبَّست برداء الدين، ضمن مشروع الفوضى الهدامة الأنجلو الأمريكي الذي أخذ قوة دفعٍ كبرى بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وبدأت خطواته العملية في العالم العربي بغزو العراق في العام 2003م، وجودٌ كبير في دراما رمضان هذا العام.
وهنا أول سبب فيما يتعلق بعدم ذكر القضية الفلسطينية؛ لأنها كانت غائبة عن أجندة الدراما ذات الطابع السياسي، وهذه ملاحظة من ضمن ملاحظات أخرى سوف ترد بعد ذلك.
وتباينت الرؤى التي قدمتها الدراما الرمضانية في هذا الصدد عن الكيان الصهيوني وحزمة القضايا التي يرتبط بها، ما بين هجوم واضح ربط بين ما يجري في شمال سيناء من أنشطة إرهابية مسلحة وبين الكيان الصهيوني، كما في مسلسل "الاختيار"، أو التنبؤ بنهاية دولة الكيان الصهيوني، ونهاية احتلالها للأراضي الفلسطينية، وخصوصاً القدس، كما في مسلسل "النهاية"، وكلاهما مسلسل مصري، ونالا هجوماً كبيراً من الإعلام الصهيوني ودوائر رسمية عديدة في الكيان الصهيوني، ولاسيما فيما يتعلق بنقطة التنبؤ بنهاية الكيان الصهيوني.
في الجانب الآخر، وهذا هو محور الحديث الرئيس، أثار مسلسل "أم هارون"، وهو مسلسل دراما سياسية واجتماعية كويتي صور في الإمارات، أدت دور البطولة فيه الممثلة الكويتية المعروفة حياة الفهد.
المسلسل من المفترض أنه يتناول صور الحياة في المجتمع الكويتي في الأربعينيات الماضية، بين المسلمين والمسيحيين، وبين الجالية اليهودية هناك، ويشير إلى ما وصفه بالكثير من المظالم التي تعرضت لها الجالية اليهودية في الكويت على خلفية تطورات الأوضاع في فلسطين، ووضوح نوايا المشروع الصهيوني العدوانية، ونشاط العصابات الصهيونية المسلحة لتثبيت أقدام المشروع على أرض فلسطين التاريخية.
ولسنا هنا بصدد مناقشة المسلسل من النواحي الفنية، ولكن المهم النقاط السياسية والاجتماعية التي حملها، وأهمها أنه روَّج بالضبط للمزاعم الصهيونية التي يردون بها على قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، فيطرحون قضية خروج اليهود من الدول العربية في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، تحت وطأة ما يزعمونه من عنصرية واضطهاد تعرض لهما اليهود في بلدانهم الأصلية بل ويطالبون بتعويضات عن ممتلكاتهم التي تركوها هناك!
وهذا مردود عليه، فجميعنا نعلم أن غالبية اليهود العرب جرى تهجيرهم سرّاً بوساطة عصابات وخلايا مخابراتية صهيونية أقنعت الكثيرين منهم بضرورة الهجرة إلى فلسطين من دون ضرورة فعلية. تماماً كما تعاونت الوكالة اليهودية مع النازي خلال الحرب العالمية الثانية لدفع اليهود للهجرة إلى فلسطين، وهذا ثابت بالوثائق ولا يوجد أي جدل فيه.
والدليل على أن الصهاينة ومَن يقفون خلفهم هم الذين قاموا بذلك من دون أي باعث عنصري حقيقي، أن اليهود ممَّن بقوا في بلدانهم الأصلية، مثل مصر وتونس والعراق والمغرب، لم يعانوا من أية مظاهر للعنصرية والتمييز، ويحوزون حقوق المواطنة كاملة ، ومَن تعرَّضت لهم حكومات هذه البلدان، بالذات بعد نكبة العام 1948م، هي عناصر مارست أنشطة تخريب وتجسس كما جرى في العراق ومصر، ومثبت ذلك في كتاب ووثائق صهيونية رسمية اعترفوا فيها بمسؤوليتهم عن هذه الأنشطة بعد مرور خمسين عاماً عليها بموجب قوانين حرية المعلومات في الكيان.
لذلك، حاز المسلسل إشادة من جانب دوائر رسمية في الكيان الصهيوني، بما في ذلك المتحدث الرسمي باسم مكتب رئيس الوزراء الصهيوني، أفيجدور جندلمان، ووضع المسلسل الذي تبثه شبكة "إم. بي. سي" المثيرة للجدل، في سياق أنه ضمن أنشطة التطبيع المحمومة التي بدأت على المستوى الرسمي منذ سنوات طويلة بين العرب والكيان الصهيوني، وتصاعدت بفعل تطورات الحدث السياسي والأمني في المنطقة العربية منذ 2011م، وتصاعد النفوذ الإيراني ودور جماعات ما يُعرَف بالإسلام السياسي بعد الثورات الشعبية التي اندلعت في ذلك الحين، وتحاول دوائر صهيونية رسمية وغير رسمية في المنطقة وخارجها تحويلها إلى تطبيع شعبي.
الدفاع "الرسمي" من جانب فريق عمل المسلسل، جاء ضعيفاً، وأكَّد ما ذهبت إليه الدوائر الصهيونية، بل إنه أكد ما قاله أفيخاي أدرعي - المتحدث باسم جيش الاحتلال - وتفاخر به حول دول مؤسسات الدولة الصهيونية العسكرية والأمنية في الدفاع عن "مواطنيها".
المستغرب بالفعل أن قضية التطبيع كانت مستبعدة بهذا الوضوح والفجاجة في الدراما العربية، حتى الدراما المصرية والأردنية، لم تخُض في ذلك إلى هذه الدرجة برغم وجود اتفاقيات تسوية مع الكيان الصهيوني، وحتى في المجال الإعلامي العام، في ظل حساسيات شعبية لا تزال باقية برغم عقود "السلام" الطويلة.
إلا أن وتيرة أحاديث التطبيع تزايدت في منطقة الخليج العربي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حماية لمقاعد الحكم بالترس أو المِجَن "الإسرائيلي"، إن يعلم الجميع أن الاستقرار السياسي والبقاء في كراسي الحكم، والحفاظ على علاقات أمنية وسياسية جيدة مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة التي قال ترامب صراحة إنه لولا الدعم الأمريكي لسقطت حكومات مشيخات الخليج، نقول إن كل ذلك رهين بالكيان الصهيوني، ومفتاح ذلك هو التطبيع.
وفي هذا الإطار، تعرف الساحة الصحفية والإعلامية العربية بشكل عام منذ ما يقرب من عقدَيْن من الزمن ما يعرف بظاهرة الصهاينة العرب، وهم مجموعة من الإعلاميين والصحفيين دأبوا على أحاديث الإفك التطبيعية، وروَّجوا لوجهة نظر صهيونية بأن "الكيان الصهيوني صديق في مواجهة العدو الإيراني".
ولكن اعتبارات العدالة والإنصاف تستوجب القول إن السياسات الإيرانية العدوانية في سوريا واليمن ومناطق أخرى، ساندت هذه الرؤية.
وتذرَّع هؤلاء بمشكلات عديدة نهضت مع الفلسطينيين بسبب موقف منظمة التحرير الفلسطينية وقت الغزو العراقي للكويت عام 1990م، عندما أيد ياسر عرفات صراحةً موقف الرئيس العراقي صدام حسين، وصولاً إلى الحملات الإعلامية الممنهجة التي تقوم بها بعض الأوساط الفلسطينية الحركية ضد الحكومات الخليجية على خلفية صراعات وأزمات الربيع العربي.
ولكن ما لا يستطِع جمهور كبير من الصحفيين والمثقفين العرب - والخليجيين على وجه الخصوص فهمه - أن ملف الكيان الصهيوني ووجوده في العالم العربي والإسلامي، أمرٌ مختلفٌ تماماً عن قضية الخلافات مع الفلسطينيين هذه. فالكيان الصهيوني مهدِّد عام للأمن القومي الوطني والإقليمي، بالذات للعالم العربي . أما قصة السلوك السياسي الفلسطيني بالتلاوين المختلفة لهوية الفصائل الفلسطينية، فهذا لا يمكن بحال تبرير التطبيع أو استبدال الفلسطينيين بالصهاينة. فهذا جنون.
يقول اللهُ تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
هذه الآية من شطرَيْن، وكلاهما يلخِّص حالنا مع الكيان الصهيوني مثل حالنا مع الشيطان الرجيم.
الشطر الأول من الآية واضح. الكيان الصهيوني عدوٌّ فاتخذوه عدوّاً؛ لأن القصة مختلفة تماماً عن نقطة العلاقات السياسية بين كيانات بينها خلافات أو أزمات - كما يقول المحللون -المجال الذي يتضمن الكيان الصهيوني في التصنيف، وبالتالي في طرائق التعامل، هي "Category" مختلفة عن نقطة أزمة العلاقات الجزائرية المغربية أو أزمة العلاقات المصرية القطرية مثلاً، أو ما شابه.
بل إنها أكبر حتى من أبعاد القضية الفلسطينية القريبة لكي ندمِج التطبيع مع الكيان الصهيوني في السياقات السياسية للقضية، حيث هو شرٌّ خالص لا يمكن تصوُّر أن يأتي من وراءه خيرٌ، أو نهوض سلام حقيقي معه. هو لن يقبل ذلك أصلاً.
وهذا نفس منطق الشيطان الرجيم الذي جاء في الشطر الثاني من الآية، الشيطان عدوٌّ لبني آدم، ويريد أن يرانا جميعاً في جهنم والعياذ بالله، وأن يوقع فينا الضرر، ولو كان هذا الضرر فقدان قطرة ماء.
وبالتالي، وبالمنطق العقلي بعيداً عن الجانب الديني العقدي في الموضوع، أنا لا يمكنني بحال أن أتخذه حليفاً لي. بينما قد يكون بيني وبين إنسان آخر أزمات وخلافات، يمكن أن تُحَل أو أن أستجير بآخرين عليه لاستعادة حقوقي.. إلخ.
"الآخرين" هؤلاء يمكن أن أضمن فيهم احتمال الخيرية، أما الشيطان عليه لعنة الله، فلا خيرية فيه مطلقاً، والإيمان بغير ذلك، هو كفرٌ مبين.
هكذا الكيان الصهيوني، لا يمكن بحال أن أتصور أنه يريد بالعرب، بمسلميهم ومسيحييهم، أو بعموم المسلمين، الخير أبداً.
وهذا ثابت بالوثائق والممارسة والواقع، فقد تورَّط الكيان الصهيوني في عمليات تهريب السلاح والمخدرات إلى مصر طيلة سنوات ما بعد اتفاقية السلام، ولعب أسوأ الأدوار في دعم الفوضى الداخلية في كثير من الدول العربية، بما في ذلك حتى أنشطة استهدفت إحداث فتنة طائفية في مصر.
وحتى قريب، اكتشف الجيش المصري أسلحة صهيونية مع خلية إرهابية جرى تصفيتها في العريش بعد تفجير مدرعة عسكرية في بئر العبد في مطلع مايو الحالي، وعندما قامت الدوائر الرسمية المصرية بمراجعة السلطات الصهيونية في هذا الأمر، وسؤالها عن كيفية انتقال هذا السلاح إلى العريش، كان الرد بأنه مسروق من قاعدة عسكرية صهيونية في النقب المحتل!
وأبسط دليل ما يؤذون به مصر وأمنها القومي، وفيما يخص القضية الفلسطينية، نسفت الحكومات الصهيونية اتفاقيات أوسلو من قبل حتى ظهور "حماس" التي يتحججون بها، في المعادلة السياسية الفلسطينية.
إن كل ذلك يفرض الكثير على العاملين في الحقول الإعلامية والتربوية المختلفة في توضيح طبيعة المشروع الصهيوني، وخطورته، وأن الأمر أبعد وأخطر بمراحل من خلافات سياسية ضيقة في أي اتجاه بين العرب وبعضهم البعض، ومنهم الفلسطينيون وفصائلهم وتنظيماتهم.