الاستقرار والحَضَر واشتراطات التحقُّق الحضاري في التصوُّر الإسلامي

الرئيسية » بصائر الفكر » الاستقرار والحَضَر واشتراطات التحقُّق الحضاري في التصوُّر الإسلامي
books

من بين أهم الأمور التي ينبغي لنا أن ندركها كمسلمين، هي أن الإسلام دينٌ شامل، وهذا الشمول، يحقق بين طياته، سمة من أهم ما يمكن، وهي التكامل. التكامل ما بين مختلف الجوانب التي ينظمها الدين وتنظمها الشريعة في حياتنا.

والدين في المنظور الفكري والعام، أوسع من الشريعة؛ لأن الشريعة تمثل الأحكام التي ارتضاها اللهُ تعالى لنا لكي ننظِّم بها حياتنا، في تصور أقرب إلى القانون في التنظيم البشري، ولله المثلُ الأعلى.
أما الدين فيتضمن الكثير من النواحي الأخرى ذات الطابع الفكري والتطبيقي، فهو بجانب العقيدة بالمعنى المباشر: أن نؤمن بأنه لا إله إلا الله، وأن محمَّداً رسول الله، يتضمن كذلك تصوراتنا الشاملة عن هذه الحياة، وأسباب وجودنا فيها، وبالتالي... أدوارنا فيها.

وتحقيق هذه الأدوار، له متطلبات وآليات، وهو ما يندرج أسفل قانون السببية، والذي أساسه في تصورنا العقدي أن الإيمان بالأسباب من صميم الإيمان بربِّ الأسباب، وبالتالي، فإن الأسباب المادية لا تُعدّ مساراً بديلاً عن الاعتمادية على اللهِ تعالى ؛ فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وإنما تحقيق عناصر وجودنا في هذه الدنيا، وأداء رسالتنا فيها، هو رهينٌ بالعمل والسعي، والذي هو بدوره قانون آخر من قوانين العمران التي وضعها اللهُ تعالى فينا.

والأمر في هذا أقرب إلى مسألة فقهية يعرفها مفسِّرو القرآن الكريم؛ فلا يمكنك أن تصل إلى فهم القرآن، أو استنباط الأحكام الشرعية منه، من دون إعمال العقل والاجتهاد؛ فقد شاء اللهُ تعالى ألا يفسِّرُ النَّصُّ القرآني نفسه، ولا يقدِّم لنا الأمور بشكل مباشر إلا في حالات بعينها، وبحكمةٍ بالغةٍ من اللهِ عزَّ وجل.

لكن ما الذي دعا إلى إعادة الحديث في هذا التوقيت؟

الحقيقة أن الأمر لا يتعلق في هذا الموضع من الحديث بترفٍ فكري، يتلاءم مع فترة العُزلة والانقطاع التي فرضها علينا كورونا المستجد، وما يدفعنا إليه الانقطاع والعزلة لكي نتأمَّل، أو هي عوارض فترة نهاية شهر رمضان وأيام عيد الفطر، وإنما هناك الكثير يفرض علينا إعادة إحياء الكثير من الأمور والمفاهيم لدى شريحة من الشباب المسلم، لا سيما الحركيين، ارتبكت لديهم بفعل الفوضى التي ضربت بأطنابها على المستوى السياسي، وأثَّرت على الكثير من القناعات والمنطلقات التأسيسية المركزية التي تشكِّل سعيهم وحراكهم في هذا العالم، وفي هذا الزمن.

لقد مثَّلت فترة طول أمد الأزمة التي تلت احتجاجات ما يُعرَف بـ"الربيع العربي"، والشتات الذي تفرَّق به سُبُل الناس، فرصة لحالة ارتباك فكري، شوَّشت عليهم الكثير من المفاهيم.

وفي الأونة الأخيرة رأينا بعض المنصات والأقلام التي تنتمي إلى بعض الجماعات والحركات الإسلامية، أو ترفع شعار الهوية الإسلامية، ولكنها -أي هذه المنصات والأقلام- أكثر راديكالية في أفكارها من إطارها الحركي العام، رأيناها ترفع شعارات تقول إن الفوضى أفضل من الاستقرار، وأن البداوة أفضل من المدنية والحضر.

وتحرياً لاعتبارات الموضوعية؛ فإن هذا بالتأكيد له أسبابه المتعلقة بسلوك الأنظمة والحكومات الفاسدة والمستبدة التي تحكم في عالمنا العربي والإسلامي؛ فقد قادت سلوكيات هذه الأنظمة والحكومات إلى حالة من الكفران المبين بكل ما يتعلق بمفهوم "الدولة"، ولا سيما فيما يتعلق بظاهرة السلطة وعلاقتها بالمجتمع، وما يخص مسألة ضرورة الحفاظ على استقرار -بل ووجود- الدولة ذاته، كأداة مهمة لتحقيق المدينية والحفاظ على العمران الإنساني بشتى صُوَرِه القريبة من الذهن.

أي - بتبسيط غير مُخِلٍّ - جاءت موجة الردَّة الفكرية هذه بسبب ما تعرضت له ليس التيارات الحركية الدينية فحسب، وإنما القوى والحركات السياسية والاجتماعية المنظمة بشكل عام، من يسار ويمين قومي، طالما أنها في جبهة المعارضة على يد الدولة من تنكيل، كان جانب كبير منه على المستوى الإعلامي، لأجل "الحفاظ على كيان الدولة"، و"لأجل الاستقرار".

وقد ناقشنا جُمْلةَ من هذه الأفكار والقضايا في مواضع سابقة من الحديث -سواء فيما يتعلق بشكل العمران الذي يتضمنه إقامة المشروع الإسلامي- ليس من منظور هوياتي يتعلق بحماستنا لديننا، وإنما بالفعل بما أقامته الحضارة الإسلامية طيلة قرون طويلة سادت فيها العالم القديم بالكامل، وساعدت حضارات أخرى على الظهور والنهوض، أو فيما يتعلق بالدولة ذاتها، كأعقد شكل من أشكال الاجتماع السياسي.

وكان مما خلُصْنا إليه في الكثير من هذه المواضع من الحديث، أن الإسلام يفرض علينا العديد من الأمور في هذا الصدد؛ الاجتماع الإنساني والسياسي.

الأمر الأول/ هو أن هناك ضرورة لوجود سلطة حاكمة، تعمل على تنظيم شؤون الناس وحفظ الأمن، والتوزيع العادل للموارد الاقتصادية، والتي من أبرز سماتها، أنها موارد نادرة ، قال الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إذا خرج ثلاثة في سَفَرٍ فليؤمِّروا أحدهم" (صحيح/ أخرجه أبو داود).

والحديث معناه بشكل مباشر، وواضح، يقول بأن ولاية أمور الناس من واجبات الدين، وأن المسلمين لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض.

ومن بين ما يدل على ذلك أيضاً قوله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا يحلُّ لثلاثة نفر يكونون بفَلاةٍ من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم" (أخرجه أحمد في المسند).

وتجربته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دولة المدينة، أهم سند شرعي لذلك؛ فهو لم يقف عند حدود الدعوة بعد الهجرة، وإنما عمل على بناء دولة متكاملة الأركان بالمفاهيم الحديثة، من خلال دولة المدينة، تضمنت دستوراً ممثلاً في "وثيقة المدينة"، وارتكزت على مفاهيم الرعاية والمواطنة التي تنهض عليها الدولة الحديثة، ومن خلال ما أيده القرآن الكريم في سُوَرة "الأنفال" بشأن مفهوم الرعاية القنصلية لمواطني الدولة بالمعنى المعاصِر.

يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72].

واللهُ تعالى لا يفرض علينا شيئاً فيه مَضَرَّة، ولا عبثاً، وبالتالي فإن فساد السلطة في عالمنا العربي والإسلامي ومظالمها، لا ينفي الأصل ، تماماً كما نقول دفاعاً عن الإسلام: "إن الدين لا يُحاكَم ولا يُقَيَّم بأخطاء المسلمين، ولا أخطاء التطبيق في أي مجالٍ من المجالات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية... وغيرها".

فالسلطة ضرورية لتحقيق أهم ركن من أركان قيام أية حضارة، وهو الاستقرار، وهذا أمرٌ لا يتعلق بمفاهيم وأطرٍ عامة، مثل إقامة العمران، وإنما هو أساس إمكانية نهوض المسلمين بأهم واجباتهم، وهي الأمانة التي حُمِّلُها الإنسان: إقامة عقيدة التوحيد، والدعوة إليها.

وهذا لن يكون من دون بُنية وأسس يتحرك الإنسان عليها، ويحمي نفسه من أعدائه بها، والقرآن الكريم جاء قبل ما جاء به (ماسلو) بقرون طويلة عن سُلَّم الاحتياجات الإنسانية؛ فلا تتحقق للإنسان إنسانيته، واحتياجاته المرتبطة بكرامته كإنسان، إلا بعد تحقيق الأمن وإشباع الحاجات الفسيولوجية: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قُرَيْش:4].

وهذه الأخيرة لا يمكن أن تتحقق في ظل فوضى، ومن دون سلطة تعمل على تحقيق الأمن، وتوزيع الموارد الاقتصادية التي تتَّسم بالنُّدْرَة كما قلنا.

وفي علوم الأنثروبولوجي، والعمران والاجتماع الإنساني، فإنَّ أول صور الاستقرار بدأ ظهور التجمعات البشرية المنظمة بها، هو الَحَضر الزراعي، الذي تطور بعد ذلك إلى الحَضَر المديني، ومثَّل اجتماع أقاليم الحَضر الزراعي والمديني، مفهوم الدولة التي هي أرقى وأعقد صور الاجتماع الإنساني والسياسي المُنَظَّم.

وهنا ينبغي لنا تحرير مفهوم الحَضَر؛ فهو يعني ببساطة غير مُخِلَّة، التجمُّع البشري المستقر، سواء أكان ريفياً أو مدينيّاً، زراعيّاً أو صناعيّاً.

ودعَّم الإسلام هذا الأمر بأن جَعَلَ العودة إلى البداوة، أحد صور الردَّة، أي أن الارتكاس على التحضُّر، وعلى الاستقرار.

ففي "لسان العرب" ابن منظور، بلسان الحديث الشريف: "ثلاث من الكبائر منها التَّعرُّب بعد الهجرة"، وفسَّر ذلك بأنه مَن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذرٍ، يعاملونه كالمُرْتَد (طبعة بيروت، 1968م، الجزء الأول، ص587).

وبالتالي... فإنَّ القول بأنَّ الفوضى أفضل من الاستقرار، أو أن العودة إلى البداوة أفضل من الحياة في الدولة الحديثة، كل ذلك يخالف صحيح الدين ، ويصل الأمر إلى مخالفات عقدية على النحو الذي رأيناه.

ولا تُبرَّر هذه الأفكار بخطايا وكوارث السلطة والأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي والإسلامي؛ فهذا هو المنطق الذي اعتمده الإسلام في التعامل مع تلك الأوضاع، ليس بهدم الأساس، وإنما العمل على إصلاح الموجود، وإقامته بما يقيم صلاح الدين والدنيا، والعمل على استبدال الإطار الفاسد الحاكم، لا تدمير كل شيء.

وهنا ثمَّة واجبات على المفكرين والعلماء العاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة، ولديهم رؤية واضحة حول موقف الإسلام من هذا كله، وهو بذل المزيد من الاهتمام بهذه الأمور، وتوضيح الرؤية الإسلامية الصحيحة التي تضمن التحقُّق الحضاري السليم، بعيداً عن الانفعالات الآنية؛ لأن الأمر لا يتعلق بمصالح أو صراعات شخصية، وإنما من المفترض أننا جميعاً نسعى في أمرٍ أكبر، وأهم وأعظم، مما يخصنا كشخوص وكيانات.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …