العفاف في العالم الافتراضي الموازي (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » العفاف في العالم الافتراضي الموازي (1-2)
social-media-image-

إن #التكنولوجيا في عصرنا الحديث ما تركت مكاناً ولا مجالاً إلا اقتحمت خصوصياته، فلم يعد هناك فرق بين القرية ولا المدينة، ولا بين مُتعلم ولا غير مُتعلم، بل لم يعد هناك فرق بين رجل ولا امرأة، ولا بين شاب ولا فتاة، فالكل في هذا المجال أصبحوا سواء.

إن التكنولوجيا في عصرنا هذا أصبحت كالضيف الذي لا يراعي حُرمة البيت الذي يدخله، فتراه يتجول في حُجرات البيت وأركانه دون مُراعاة لأدب ولا شعور، ودون حرص على قيم ولا دين.

إن التكنولوجيا التي نعنيها هنا هي تكنولوجيا التواصل الاجتماعي التي سهَّلت وزيَّنت ورغبت في التواصل بين الجنسين للحد الذي أصبح يُقال فيه إن من لا يجاري هؤلاء السفهاء رجعي مُتزمت لا يُراعي طبيعة العصر الذي يعيش فيه، وللحد الذي أصبح المحظور أصلاً، والأصل محظورًا.

أولاً/ مظاهر التسيب والانفلات على منصات التواصل الاجتماعي

تنوعت منصات التواصل الاجتماعي، وأصبح من السهل انتشارها بسرعة لا يتصورها عقل، وكل ذلك تسبب في أن تكون مظاهر التسيب والانفلات على منصات التواصل الاجتماعي لا حصر لها.

إن سُبل التحايل على هذه المنصات قد تنوَّعت، ووسائل الإغراء كثرت، والقصف اللاأخلاقي تمكَّن من هذه المنصات تمكُّن السَّهم من كبد الفريسة، وشياطين الإنس من كل حدب وصوب ينسِلُون؛ لكي يُوقعوا الفريسة في الفخ الذي ينصبونه لها بطريقة أو بأخرى، فلا يفلت من براثنهم إلا أقل القليل ممن رحم ربي.

إن مظاهر التسيب والانفلات على منصات التواصل الاجتماعي لم تعد خفية على أحد، فرائحتها تزكم الأنوف، وشظاياها تتطاير في كل مكان، وتبعاتها قد أصابت كثيراً من البيوت.

فعلى منصات التواصل الاجتماعي تجد الرجل يبحث عمن تبادله عبارات الغزل والإعجاب، ولو كانت زوجته ولكنها تتقمص دور امرأة أخرى، أو كان رجلاً مثله يتقمص دور امرأة، والمرأة في هذا الجانب مثل الرجل سواء بسواء، إن لم تكن أخطر من ذلك، إلا من رحم ربي.

وتجد الشاب يتنقل بين الصفحات والمواقع بأسماء مُستعارة وأدوار وهمية، كل اسم يستخدمه لغرض وكل دور يلعبه لهدف، فتراه يحصل من هذه على مكالمة، ومن تلك على صورة أو مشهد، ومن أخرى يحصل على لقاء للتعارف عن قرب، وكل واحد في ذلك حسب خبث نفسه وهواه، وحسب تلاعب الشيطان بعقله وقلبه، والفتاة في هذا الجانب مثل الشاب سواء بسواء، إن لم تكن أخطر من ذلك، إلا من رحم ربي.

إن هذا التسول -وإن شئت قل التسكع- على منصات التواصل الاجتماعي له نتائج وخيمة على العالم الواقعي فقد فسدت الأخلاق، وتفككت العلاقات، وخربت البيوت، والكل في العالم الواقعي يتظاهر بعكس ذلك تماماً، والكل يتقمص دور الإنسان دمث الخلق، شديد التقوى والورع، إلا من رحم ربي، وهم قليل.

ثانياً/ أسباب التسيب والانفلات على منصات التواصل الاجتماعي

يرجع التسيب والانفلات على منصات التواصل الاجتماعي إلى عدة أسباب، نجملها فيما يلي:

1. قلة الوازع الديني والثقافة الدينية لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.

2. النظر إلى وسائل التواصل الاجتماعي على أنها عالم افتراضي قد يجوز فيه ما لا يجوز في العالم الواقعي.

3. ضعف الرقابة الناتج عن الإفراط في الثقة.

4. ضعف الثقافة العامة بأنواع وسائل التواصل وأغراضها وسبل استخدامها.

بالنسبة لقلة الوازع الديني: تجد أحدهم/ أو إحداهن إذا سمع تفسير قوله تعالى: {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] وعرفوا أن تفسيرها كما قال مجاهد: "الخليلة يتخذها الرجل، والمرأة تتخذ الخليل"، تجد جلودهم قد اقشعرت ولا تتخيل أحداهن نفسها ولا يتخيل أحدهم نفسه في هذا الوضع المُزري، ثم إذا خلوا بأنفسهم في عالمهم الافتراضي الموازي يفعلوا كل ما سبق أن اقشعرت جلودهم بمجرد ذكره في العالم الواقعي، والعياذ بالله.

وتجد أحدهم/ أو إحداهن إذا سمع كلمة (ديوث) ضاق صدره، وانتفخت أوداجه، وغلت الدماء في أم رأسه، واستعاذ بالله، كل ذلك وهو يترك الحابل على النابل لنفسه ولأهله ولأولاده يصولون ويجولون، وعلى كل مائدة في العالم الافتراضي الموازي يأكلون، وكأن ما يفعلونه ليس بخلوة حرمها الشرع ونهى عنها.

أما بالنسبة للفهم الخاطئ والمغلوط: فإن الأبله والبلهاء يلقون بأنفسهم في هذا العالم الافتراضي؛ ظناً منهم بأن الترخص في هذا العالم الافتراضي مُباح، وأن ما يفعلونه مُجرد تسلية، وأنهم بذلك يسقون ظمأ أرواحهم، أو يعوِّضون ما فاتهم، أو ينالون ما حُرمُوا منه في الواقع الحقيقي.

نسي المسكين ونسيت المسكينة أنهم حين يفعلون ذلك فهم كالذي يشرب من البحر المالح الذي لا يروي عطشاً ولا يسد نهماً.

ونسي المسكين ونسيت المسكينة أن نار الشهوة بداخلهم تزداد اضطراماً؛ لأن أكثر الناس عذاباً هو هذا الجائع النَّهِم الذي توضع أمامه مائدة شهية حتى إذا لعبت رائحتها في أنفه وسال لعابه رُفِعت المائدة من أمامه، ولك أن تتخيل كيف يكون حاله في هذه اللحظة.

إن كل هذه الممارسات الخاطئة في العالم الافتراضي الموازي تنحت في قيمنا، وتخرم في ثوابت ديننا، إلى أن ينقض جدار الستر والعفة والحياء بداخلنا ، حينها لا تعرف النفس معروفاً ولا تنكر منكراً، وحينها نرى مُسوخاً بشرية قد تسُر الناظرين ولكن بداخلها نفوساً فرَّخت فيها الشياطين، وأبداناً قد مُلِئَت بالحيات والثعابين.

وبالنسبة لضعف الرقابة الناتج عن الإفراط في الثقة: فإن الأب/ أو ولي الأمر أو العائل يظن أن جهده في التربية، أو ما يؤديه أفراد الأسرة من عبادات وسلوكيات كفيل بوقايتهم إذا تركوا وحدهم في هذا العالم الافتراضي الرحب، وهذا فهم خاطئ وثقة في غير محلها.

نسي المسكين أن العالم الافتراضي الموازي به من يسبقونه ويسبقون من يعولهم بسنوات ضوئية في أساليب المكر والخداع والتغرير، وأن هؤلاء يلبسون مُسوح الضأن على قلوب الذئاب حتى تتمكن براثنهم من كبد الضحية.

إن ثقة العائل المفرطة في هذا الجانب مهلكة ومضيعة، وتتنافى مع طبيعة العالم الافتراضي الموازي، ولا تتفق مع دوره ومسئوليته تجاه من يعول .

وبالنسبة لضعف الثقافة العامة بأنواع وسائل التواصل وأغراضها وسبل استخدامها: فإن عبارة "منصات أو وسائل التواصل الاجتماعي" تعني عند كثيرين موقع "فيس بوك" فقط لكونه الأكثر شعبية، ولا يعلم هؤلاء أن "فيس بوك" مُجرد موقع من بين مواقع اجتماعية أخرى عديدة مثل (تويتر - سناب شات - انستجرام - لينكد إن - يوتيوب - بنتريست - جوجل بلاس - تمبلر - فليكر - فاين - في كي - فايبر)، بالإضافة إلى عشرات المواقع الأخرى، ويهتم كل موقع من هذه المواقع بنوع معين من أنواع التواصل، وكل موقع من هذه المواقع به عشرات الملايين من المستخدمين، وكل هذه المواقع تتنافس فيما بينها في كسب مؤيدين جدد عن طريق تقديم خدمات أفضل لمستخدميها، والخدمات هنا تعني في معظمها خدمات التواصل التي تجعل المستخدمين وكأنهم تحت سقف واحد، ولك أن تتخيل البقية.

إن نهم وهوس الأفراد للاشتراك في مثل هذه المواقع جعل نسبة استخدام شبكة الإنترنت تزداد لتصل إلى حوالي 59% من سكان العالم مع نهاية عام 2019م لتصل إلى 4.6 مليار مستخدم منهم 4 % في منطقة الشرق الأوسط وحدها.

بعد هذا التعريف المبسط بالعالم الافتراضي الموازي أعتقد أن تصورنا عن هذا العالم قد اختلف كثيراً عن ذي قبل، وأن الشعور بالمسئولية قد تضاعف، ومسئوليتنا أمام الله تعالى في المقام الأول، ثم مسئوليتنا أمام أنفسنا بما يجب أن نبذله من جهد توعوي وتربوي ورقابي تجاه أنفسنا وتجاه من نعول.

وأختم حديثي في هذا الجانب بمقولة: "إذا جاءتك السلعة بلا ثمن فاعلم أنك أنت الثمن "، وبالتنبيه على أن الغزو الفكري في عصرنا قد بلغ مداه، وأن الأسرة المسلمة هي المستهدفة في المقام الأول؛ لأن قيم الأسرة لو انهارت سينهار المجتمع بكامله.

إن أعداء الإسلام على يقين أنهم متى نجحوا في القضاء على الأسرة المسلمة أصبح أفرادها كالأغنام في الليلة الشاتية، حينها يتلقفونهم فرادى؛ ليُغيِّبوا وعيهم وليُفسدوا مفاهيمهم ومُعتقداتهم، ويُغرونهم ويُمنونهم، حتى إذا أيقنوا أن هؤلاء الأفراد قد غاب وعيهم وتشربوا المفاهيم الفاسدة حتى الثُّمالَة تركوهم يواجهون أمواج الحياة المتلاطمة وحدهم، فلا هم إلى ما منوهم يصلون ولا إلى ما كانوا عليه من قيم ومبادئ يعودون.

وللحديث بقية في الحلقة القادمة من نفس الموضوع بإذن الله تعالى

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …