المسؤولية الفردية تعني ما يُسأل عنه ويحاسب عليه الفرد، وتنقسم لقسمين: المسؤولية عن النفس وعن الغير، فالمسؤولية الفردية لا تعني انفراد الفرد بالمسؤولية عن نفسه دون غيره، أو إعفاءه من عواقب أثر ما يفعل أو لا يفعل على الغير، فثمة صلة -معتبرة في الشرع- بين الفرد ومحيطه من الناس بل وكافة مخلوقات الله، وبذلك يأتي تصور الإسلام وسطاً بين المذاهب الذاتية الأنانية والغيرية الفانية .
ومن دلائل المسؤولية عن النفس: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [فاطر:19]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7، 8]، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84]، وفي الحديث القُدُسيّ: "يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ" (مسلم).
ومن دلائل المسؤولية عن الغير: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125]، {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:3، 4]، {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:42، 43]، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، وفي الحديث: "المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ" (البخاري)، "لقد رأيتُ رجلاً يتقلّب في الجنة، في شجرة قَطَعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين" (مسلم).
وقد شرع الشارع أركان الاجتماع في المجتمع المسلم، وأحقّ الحق -سبحانه- للمسلم على المسلم حقوقاً، لا يمكن بدونها تعبيد الأرض الله وأداء مسؤوليات الاستخلاف، كالتراحم والتكافل والتعاون على البر والتقوى وغيرها من دعائم الإيمان في الأنفس والآفاق، ولذلك تجد في الشرع فروضاً عَينِيَّة (أي تجب على كل فرد مُكَلَّف بنفسه) وفروضاً كفائية تجب على مجموع الأفراد المُكلّفين عامة لا من فرد بعَيْنِه خاصة، فإذا قام بها أفراد بما يكفي سقط الوجوب عن الباقين، أمّا إذا لم يقم بها أحد أَثِمُوا جميعاً، من ذلك مثلاً: الجهاد والدعوة والأذان وغُسل الميت والصلاة عليه ودفنه.
شرع الشارع أركان الاجتماع في المجتمع المسلم، وأحقّ الحق - سبحانه - للمسلم على المسلم حقوقاً، لا يمكن بدونها تعبيد الأرض الله والقيام بمسؤوليات الاستخلاف
وبذلك تفهم الأحكام التي تُلزِم أفراد المجتمع عاقبة الأفعال الجماعية، وتدرك حكمة أحكام النكاح وغيرها من "الأحوال الشخصية" التي تجعل اعتباراً لأهالي الأطراف المعنيين، وكل هذا يخالف التصورات الأجنبية لمفاهيم الاستقلال والفردانية والجزر المنعزلة، والمؤسف أن مظاهر حياة المسلمين في غالبها لا تعبر عن شعور المسلمين بالمسؤولية الفردية سواء عن النفس أو الغير، ومن تلك المظاهر: عدم الحَضِّ على طعام المسكين بل الحضّ على البخل والإمساك، ولا الحرص على تعهّد الجيران بالخير بل تعقّبهم بالأذى والغيبة، ورمي القمامة في الشوارع وإساءة استعمال الحمامات العامة وحمامات المساجد، وإطلاق الأطفال للعب المزعج في الشوارع في كل الأوقات وترك الشباب في مجالس الطرقات دون تعليمهم آداب الطريق وحقه: "أَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ... غَضُّ الْبَصَر، وكَفُّ الأَذَى، ورَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بالْمَعْروفِ والنَّهْيُ عنِ الْمُنْكَرِ" (متفق عليه).
وإن ضرر سلوك الفرد المخالف لأمر الله لا بد أن يتعدّى لغيره ، وفي الحديث: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَة فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: "لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا!"، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً" [البخاري].
هذا المَثَل الذي ضَربه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يبدأ بتصنيف الناس في المجتمع إلى صنفين بحسب المسؤولية الفردية عن النفس: المستقيم على أمر الله، والمخالف لأمر الله، ثم يبيّن عاقبة كلا الفريقين بحسب المسؤولية الفردية عن الغير، فإذا اكتفى المستقيم باستقامته في نفسه دون عناية بردع المخالف عن مخالفاته حيث لزم الردع وقدر عليه، سيعمُّ البلاء الجميع، والبلاء هنا اسم جامع لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الحقّ سبحانه: {وَاتّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وأورد القرطبي في شرحه للآية في كتابه "التذكرة": "إذا كَثُر المفسِدون وقلَّ الصَّالِحون هلَك المفسِدون والصَّالحون معَهم إذا لم يَأمُروا بالمعروفِ ويَكرَهوا ما صنَع المفسِدون، فالمعصية يَعُمُّ شُؤمُها على الجميعِ، مَن تَعاطاها ومَن رَضِيَها".
فالسكوت على المنكر مع القدرة على النهي رضا به، والراضي بمنزلة العامل فدخل معه في العقوبة، وشدّد النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا المعنى في أحاديثه، منها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِل: "أنهلِكُ وفينا الصَّالحون؟" قال: "نعم، إذا كَثُرَ الخَبَث" (مسلم)، وعن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ - رضوانُ اللهِ عليه - أنَّه قال: "أيُّها النَّاسُ إنَّكم تقرؤُون هذه الآيةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإنَّا سمِعنا النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقولُ: "إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه، أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ"، وإنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يقولُ: "ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا، ثمَّ لا يُغيِّروا، إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ" (سنن أبي داود).
ويترتب على فهم فرعي المسؤولية الفردية وفارق تصور الشرع عن التصورات الأخرى، تمييز الحدّ الذي تنتهي عنده خصوصية السلوك الفردي وتبدأ المؤاخذة على الأثر المتعدي، فكلّ من جاهر بسلوك أو أذاع قولاً أو نشر فكراً، واقتُدِيَ به، كان له من الثواب أو عليه من الوزر بعدد المُقتدين والمتأثرين، من غير أن ينقص من أوزارهم أو حسناتهم شيئاً! وفي الحديث: "لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (مسلم)، وذكر النووي في شرحه: "وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَهُوَ: أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئاً مِنْ الشَّرّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر كُلّ مَنْ اِقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة"، فتأمّل هَول المسؤولية الفردية عن مثل ذلك العدد، وتفكّر في اختلاف تطبيقات حرية الرأي والفعل بين التصور الشرعي وغيره من التصورات البشريّة الأجنبية.
يترتب على فهم فرعي المسؤولية الفردية وفارق تصور الشرع عن التصورات الأخرى، تمييز الحدّ الذي تنتهي عنده خصوصية السلوك الفردي وتبدأ المؤاخذة على الأثر المتعدي
ومعيار سوء أو حُسن السنة أن تكون عملاً مشروعاً تشهد له أدلة الشريعة ويقع تحت ما أمر الله ورسوله به وندب إليه ، وإن لم يكن لهذه الأعمال مثالٌ موجود على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً، جمع سيدنا عمر بن الخطّاب الناس على التراويح في رمضان؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسنُّ الاجتماع لها طوال أيام شهر رمضان، إنما صلَّى بالصحابة ليالي ثم ترك ذلك خشية أن تُفرَض على الأمة، فلمّا قُبِض -صلى الله عليه وسلّم- وانقطع الوحي واستقرت الفرائض على ما هي عليه، انتفى ذلك المانع الذي خشيه المصطفى عليه السلام، فجاء بادرة سيدنا عمر -عليه الرضوان- موفّقة وموافقة للأصول الشرعية، فقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام رمضان، وصلَّى بهم بالفعل جماعة لليالٍ، ومثالاً ثالثاً، جمع الصحابة للقرآن وتدوينه في عهد سيدنا عثمان -عليه الرضوان- ثم جمع الناس على نسخة المصاحف العثمانية وإحراق ما سوى ذلك، وهذا كله مندرج فيما ندبت إليه الشريعة من تحري الحق وحفظ القرآن وجمع الكلمة ودحض أسباب الفرقة والفتنة... إلخ.