يهل علينا شهر #رمضان المبارك هذا العام ونحن في ظروف استثنائية، نسأل الله تعالى أن يُعجِّل بزوالها، هذه الظروف تحتم علينا المكوث في البيت أطول وقت ممكن.
إن المكوث في البيت لفترة طويلة يعتبرها البعض محنة ثقيلة على النفس تصيبه بالرتابة والملل لكونهم لم يتعودوا على ذلك، ولكننا لو أحسنا التخطيط لاستغلال هذا الوقت في تهذيب أنفسنا وأسرنا لاحتجنا فوق الوقت أوقاتاً.
من هنا، جاءت فكرة إعداد بعض الخواطر الإيمانية الخفيفة التي تهدف إلى غرس القيم وتقويم السلوكيات، سائلاً الله عز وجل أن تكون سبباً في تقويم ما غاب عنا من قيمنا، وما اعوج من سلوكنا.
خاطرة 10: الصبر
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {153}" (البقرة : 153).
الصبور "جل جلاله": هو اسم من أسماء الله الحسنى. قال الخطابي رحمه الله: "الصَّبُوْرُ: هُوَ الذِي لَا يُعَاجِلُ العُصَاةَ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى أجَلٍ مُسَمَّى، وَيُمْهِلُهُم لِوَقْتٍ مَعْلُوْم".
عرَّف الإمام ابن القيم الصبر بأنه: "حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش".
- وعرفه الجرجاني بأنه: "ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله".
ووصف الإمام ابن تيمية رحمه الله الصبر الجميل فقال: "الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه".
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِِ" (صحيح البخاري).
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنَّ أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أنَّ الصبر كان من الرجال كان كريمًا".
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس باد الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له".
وقال أبو حاتم: "الصبر على ضروب ثلاثة: فالصبر عن المعاصي، والصبر على الطاعات، والصبر عند الشدائد المصيبات، فأفضلها الصبر عن المعاصي...".
جاء في كتاب الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا: "عن أبي ميمون، قال: "إن للصبر شروطًاً، قلت- الراوي-: ما هي يا أبا ميمون؟ قال: إن من شروط الصبر أن تعرف كيف تصبر؟ ولمن تصبر؟ وما تريد بصبرك؟ وتحتسب في ذلك وتحسن النية فيه، لعلك أن يخلص لك صبرك، وإلا فإنما أنت بمنزلة البهيمة نزل بها البلاء فاضطربت لذلك، ثم هدأ فهدأت، فلا هي عقلت ما نزل بها فاحتسبت وصبرت، ولا هي صبرت، ولا هي عرفت النعمة حين هدأ ما بها، فحمدت الله على ذلك وشكرت".
من يتتبع آيات القرآن الكريم يجدد أنه بالصبر واليقين تكون الإمامة في الدين. قال تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)" (السجدة: 24).
نصيحة
إن الصبر يشمل كل العبادات المادية والمعنوية لذلك فأجر الصابرين على الله تعالى، ومن لا صبر له فهو على خطر عظيم.
إن من ينظر إلى فرائض الإسلام يجد أن كلها تتطلب صبراً من نوع خاص فمنها ما تحتاج صبراً في الوقت ودقته مثل الصلاة، ومنها ما تتطلب صبراً في الإنفاق مثل الزكاة، ومنها ما تتطلب صبراً على الشهوات مثل الصيام، ومنها ما يتطلب صبراً على الألم والبلاء مثل الجهاد، ومنها ما يتطلب ذلك كله مثل الحج.
ولكون الصبر من العبادات النفسية والروحية التي لا يعلمها ولا يطلع عليها إلا الله تعالى فلقد جعل لصاحبه من الأجر والثواب ما يفوق غيره من العبادات. قال تعالى: "... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {10}" (الزمر من الآية 10).
اللهم إنا نسألك جزاء الصابرين
**********************************************************
خاطرة 11: الظلم ظلمات
قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {44}" (يونس 44).
عن أبي ذر رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ: "يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، ..." (رواه مسلم).
تعريف الظلم: إن أبسط تعريف للظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه المختص به؛ إمَّا بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ويكون الظلم كذلك بـ: منع حق واجب للغير.
والظلم أيضًا هو: مجاوزة الحق، والتعدي على الآخرين في أموالهم أو أعراضهم؛ فمن فعل شيئًا من ذلك، فقد ظلم نفسه وظلم غيره.
أنواع الظلم: الظلم له ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظَمُه: الكفر، والشِّرك، والنفاق.
الثاني: ظلم بين الإنسان وبين الناس؛ ويكون بالتعدي، وأكل الحقوق، وسفك الدماء، وغيرها.
الثالث: ظلم بينه وبين نفسه؛ وذلك يكون بارتكاب الذنوب والمعاصي التي تورد النفس المهالك، وتوجب غضب الله تعالى.
كان يزيد بن حكيم يقول: "ما هِبْتُ أحدًا قطُّ هيبتي رجلاً ظلمته، وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، يقول لي: حسبي الله، الله بيني وبينك".
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعانَ ظالِما بباطلٍ ليدحضَ بباطلهِ حقًّا فقدْ برِئ من ذمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وذمَّةِ رسولهِ" (السلسلة الصحيحة).
كتب إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته، فكتب إليه: "حصِّنها بالعدل، ونَقِّ طُرُقها من الظلم".
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن الله لينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الظالمة وإن كانت مُسلمة، إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام".
وقيل: إن الله يستجيب دعوة المظلوم حتى ولو كان كافراً، ليس عباً في الكفر ولكن حباً في العدل.
جاء في الأثر: "إذا كان يوم القيامة قيل: أين الظلمة وأعوانهم؟ أو قال: وأشباههم فيُجمعون في توابيت من نار ثم يقذف بهم في النار".
نصيحة:
كما رأينا أن للظلم ثلاثة أنواع وليس نوعاً واحداً وهذا يُوجب علينا الحذر كل الحذر حتى لا نبعث من الظالمين، وحتى لا ندعوا على الظالمين ونحن منهم، والعياذ بالله.
***********************************************************
خاطرة 12: على بصيرة
قال تعالى: "قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108}" (يوسف 108).
قال القرطبي رحمه الله: { عَلى بَصِيرَةٍ } أي: على يقين وحق.
وقال الرازي رحمه الله: {عَلى بَصِيرَةٍ} أي: أدعو الله على بصيرة وحجة وبُرهان.
إن من أفضل ما قيل في قوله تعالى: { عَلى بَصِيرَةٍ } أي: على هُدى من الله ونور. نعرف طريقنا جيداً، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة، لا نتخبط ولا نتحسس، ولا نظن ولا نتوهم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أفرس الناس ثلاثة: امرأة فرعون في موسى، حيث قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وصاحب يوسف، حيث قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وأبو بكر الصديق في عمر رضي الله عنهما، حيث جعله الخليفة بعده.
إن البصيرة هي التي جعلت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول: "ويح ابن عبَّاس، كأنَّما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق".
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: "الفِراسة الإيمانيَّة سببُها نورٌ يَقذِفُه الله في قلبِ عبدِه، يُفرِّق به بينَ الحقِّ والباطل، والصادق والكاذب، وهذه الفِراسةُ على حسب قوَّة الإيمان، وكان أبو بكر الصدِّيق أعظمَ الأمة فراسةً".
ومما قيل في عبادة الله على بصيرة: "وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمُجاهدة نور وحلاوة يقذفهما الله في قلب من يشاء من عباده".
نصيحة
إن العبد الذي يعبد الله تعالى على بصيرة هو الذي تكون عبادته خالصة لوجه الله تعالى لا سمعة فيها ولا رياء، على أن تكون هذه العبادة مطابقة للشرع.
إن المطلوب من المسلم أن تكون جميع أموره على بصيرة، عبادته على بصيرة، دعوته على بصيرة، سعيه للكسب على بصيرة، أخلاقياته ومعاملاته على بصيرة، ليكون على بينة من أمره، وليضع كل شيء في نصابه الصحيح، وليزن كل شيء بميزان الشرع.
اللهم احفظ بصرنا وأنر بصيرتنا واهدنا سبلنا ولا توفنا إلا وأنت راض عنا
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل