يهل علينا شهر رمضان المبارك هذا العام ونحن في ظروف استثنائية، نسأل الله تعالى أن يُعجِّل بزوالها، هذه الظروف تحتم علينا المكوث في البيت أطول وقت ممكن.
إن المكوث في البيت لفترة طويلة يعتبرها البعض محنة ثقيلة على النفس تصيبه بالرتابة والملل لكونهم لم يتعودوا على ذلك، ولكننا لو أحسنا التخطيط لاستغلال هذا الوقت في تهذيب أنفسنا وأسرنا لاحتجنا فوق الوقت أوقاتاً.
من هنا، جاءت فكرة إعداد بعض الخواطر الإيمانية الخفيفة التي تهدف إلى غرس القيم وتقويم السلوكيات، سائلاً الله عز وجل أن تكون سبباً في تقويم ما غاب عنا من قيمنا، وما اعوج من سلوكنا.
خاطرة 16: سلامة الصدر
قال تعالى: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {47}" (الحجر: 47).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "لاَ تقاطعوا ولاَ تدابروا ولاَ تباغضوا ولاَ تحاسدوا وَكونوا عبادَ اللَّهِ إخوانًا ولاَ يحلُّ لمسلمٍ أن يَهجرَ أخاهُ فوقَ ثلاثٍ" (صحيح الترمذي).
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قيل لرسولِ اللهِ ﷺ أيُّ الناسِ أفضلُ؟ قال: "كلُّ مخمومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ". قالوا: صدوقُ اللسانِ نعرفُه فما مخمومُ القلبِ؟ قال: "هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ ولا حسدَ" (صحيح ابن ماجه).
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسولِ اللهِ ﷺ قال: "لا يُبلِّغُني أحدٌ عن أحدٍ مِن أصحابي شيئًا فإنِّي أحبُّ أن أخرجَ إليكُم وأنا سليمُ الصدرِ" (صحيح المسند).
عن فتح به شخرف قال: قال لي عبد الله الأنطالي: "يا خراساني، إنما هي أربع لا غير: عينك ولسانك وقلبك وهواك، فانظر عينك لا تنظر بها إلى ما لا يحل، وانظر قلبك لا يكون منه غل ولا حقد على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا يهوى شيئًا من الشر فإذا لم يكن فيك هذه الخصال الأربع فاجعل الرماد على رأسك فقد شقيت".
قال ابن القيم رحمه الله: "الفرق بين سلامة الصدر والبله والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعمل به، وهذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يُحمد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه، والكمال أن يكون عارفًاً بتفاصيل الشر سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بخب ولا يخدعني الخب" وكان عمر أعقل من أن يُخدع وأورع من أن يَخدع".
قال الإمام القرطبي، في (فتح القدير): وسلامة الصدر سبب في قبول الأعمال، ففي الحديث: "تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الاثنين، ويَومَ الخَمِيسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا" (رواه مسلم)، فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن" أهـ.
قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: "أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤجرون كثيرًا، قال سفيان: ولِمَ ذاك؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم".
نصيحة
إن الحرص على سلامة الصدر لا يجب أن يكون مدعاة للتهاون مع الفاسقين المجاهرين بفسقهم، ولا مع المبتدعين الذين يعبدون الله على ضلالة، ولا مع أصحاب الكبائر ومن سار على نهجهم، ولا مدعاة لموالاة الظالمين وأعوانهم، لأنه كما جاء في الحديث الشريف: "أوْثَقُ عُرَى الإيمانِ المُوَالاةُ في اللهِ ، و المُعادَاةُ في اللهِ ، و الحُبُّ في اللهِ ، و البغضُ في اللهِ" (السلسلة الصحيحة).
اللهم أصلح فساد قلوبنا وأعنا على إصلاح ذات بيننا
**********************************************************
خاطرة 17: سوء الظنِّ
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (سورة الحجرات: من الآية :12).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ .. " (رواه البخاري).
قال ابن كثير رحمه الله: سوء الظن (هو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله).
وقال الماوردي رحمه الله: (سوء الظن: هو عدم الثقة بمن هو لها أهل).
وقال ابن القيم رحمه الله: "سوء الظن: هو امتلاء القلب بالظنون السيئة بالناس؛ حتى يطفح على اللسان والجوارح".
إن معظم تصوراتنا عن الآخرين قد تكون غير صحيحة، ظن يتعلق بكلمة أو تعليق، أو يتعلق بتصرف لم نسأل عن تفسيره أو مُبرره، وظن يتعلق بعدم ابتسامة في موقف ما، وآخر يتعلق بإهمال زيارة في مناسبة ما... ثم يقوم الإنسان ببناء صرحاً شامخاً من سوء الظن، ويتضح في النهاية أن هذا البناء لا أصل له، أو أن لصاحبه عذر لم نحاول أن نعرفه أو نلتمسه.
عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير مَحملاً ".
وقال بكر بن عبد الله المزني: "إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظنِّ بأخيك".
قال سفيان بن حسين: "ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال: أغزوتَ الرومَ؟ قلت: لا، قال: فالسِّند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفَتسلَم منك الروم والسِّند والهند والترك، ولم يسلَمْ منك أخوك المسلم؟! قال: فلَم أعُد بعدها".
إن سوء الظن إذا كان بالله تعالى فإن عاقبته وخيمة، وخسرانه مبيناً.
قال تعالى: "وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، قال ابن القيم: (توعد الله سبحانه الظانين به ظنَّ السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: "عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا".
نصيحة
إن حسن الظن ليس معناه العفوية والتلقائية والسذاجة، فحسن الظن لا يتنافى مع الأخذ بأسباب السلامة، ولا مع الحيطة والحذر، ولا مع إعمال الفراسة، خاصة إن كان هناك من الشواهد والدلائل ما يستدعي ذلك.
اللهم بصرنا بعواقب الأمور حتى لا يطمع فينا عدو ولا يساء بنا صديق
**********************************************************
خاطرة 18: ذم التعلق بالدنيا
قال تعالى: "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً {18} وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً {19} كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً {20}" (الإسراء: 18-20).
روى البخاري عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "لو أن لابن آدم وادياً من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ بذِي الحُلَيفةِ فإذا هو بشاةٍ ميِّتةٍ شائلةٍ برِجْلِها، فقال: أترَوْنَ هذه هيِّنةً على صاحبِها؟! فوالَّذي نفسي بيدِه، لَلدُّنيا أهونُ على اللهِ مِن هذه على صاحبِها، ولو كانَتِ الدُّنيا تَزِنُ عندَ اللهِ جَناحَ بَعُوضةٍ ما سَقى كافرًا منها قطرةً أبدًا" (صحيح ابن ماجه).
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسولِ اللهِ ﷺ قال: "مَن أحَبَّ دنياه أضَرَّ بآخِرَتِه ومَن أحَبَّ آخِرتَه أضَرَّ بدنياه فآثِروا ما يَبْقى على ما يَفْنى" (صحيح ابن حبان).
قال الحرالي: "من كان رضاه من الدنيا سد جوعته، وستر عورته، لم يكن عليه خوف ولا حزن في الدنيا ولا في الآخرة، سواء جعله اللّه فقيراً أو غنياً أو ذا كفاف إذا اطمأن قلبه على الرضى ببلغتها".
قال بعض الحكماء : كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره سنته وسنته عمره وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته؟
وكتب بعض الحكماء إلى أخ له: أما بعد: فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة والمتوسط بينهما الموت ونحن في أضغاث والسلام".
عن الحسن البصري قال: "مسكين ابن آدم رضي بدار حلالها حساب وحرامها عذاب إن أخذه من حله حوسب بنعيمه وإن أخذه من حرام عذب به ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله يفرح بمصيبته في دينه ويجزع من مصيبته في دنياه".
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "جاء ملك الموت إلى نوح فقال: يا أطول النبيين عُمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال: كرجل دخل بيتا له بابان فقام وسط البيت هنية ثم خرج من الباب الآخر".
من المعلوم أن الله تعالى قد أعطى نبييه داود وسليمان الملك والثراء، وكان عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله عنهما من أغنى صحابة رسول الله ﷺ. ناهيك عن غيرهم الكثيرين من سلفنا الصالح، غير أنهم جعلوا الدنيا في أيديهم ونزعوها من قلوبهم.
نصيحة
إن الإسلام لا يمنع الثراء ولا يمنع تقلد المناصب، ولا يحرم زينة من الدنيا، ولكن ينهى المؤمن عن أن يجعل الثراء والمناصب يشغلان قلبه ويفسدان إيمانه، ويحذر من الانغماس في زينة الدنيا وملذاتها على حساب الآخرة، حينها تجد القلب لا يرق لحال فقير، ولا يتحرك لإشباع جائع ولا يتأثر بأنين مريض، بل ولا يغار على حرمات الله إذا انتهكت.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا
************************************************************************
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل