أحمد المصري: يجب أن يتفقّد أصحاب المؤسسات الإغاثية والجمعيات الخيرية المعوزين بتقديم كل صور المساعدات دون فضحهم، حتى لا تكون هذه المساعدة وبالاً عليهم
د. نسيم ياسين: من قّصر في الواجب فهو آثم وعليه وزر، ومن قصّر في الصدقات فقد أضاع عليه الخير الوفير من الحسنات والدرجات العُلا
يقفُ العالم الإسلامي في شهر رمضان المبارك هذا العام أمام مفارقةٍ صنعتها جائحةُ فيروس كورونا في توقيتٍ صعب، فقد فرضت الأزمة التباعد في الشهر الكريم فلا وجود لموائد الرحمن والتي كان الفقراء وعابرو السبيل يتجمعون لتناول الإفطار مجاناً على نفقة أهل الخير، ولا وجود للتزاور الأُسري، بالإضافة إلى توقف أغلب العمال عن عملهم مما زاد من أعداد الفقراء والمحتاجين.
وهنا تبرز أهمية التكافل الاجتماعي في شهر رمضان الكريم عبر دعم الفقراء لخلق التكافل الاجتماعي، ومساندة العمال الذين تغيّرت بهم الأحوال، فكيف يمكن تحقيق التكافل؟ وكيف حرص السلف الصالح على تحقيق التكافل الاجتماعي.
وباء "كورونا" والاختبار الصعب
من جهته، قال -الداعية الإسلامي وعضو رابطة علماء فلسطين- الأستاذ أحمد المصري: "إنّ الإسلام العظيم بتشريعاته السامية حقّقَ للمجتمع أرقى صور التكافل والتضامن بمفهومه الشامل، ومدلولاته الواسعة من الصدقات والبر والإحسان، فقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، كما أخبر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أيضاً كما في الصحيح: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
وأضاف: "هكذا هو ديننا يريد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً، وهذا ما أوصى به الله -عز وجل- في الشريعة الربانية، وأوصى به كذلك محمد -صلى الله عليه وسلم- في المدرسة المُحمّدية؛ لكي يحمل الموفورون الأغنياء عبء المحتاجين والفقراء واليتامى والمساكين في هذا الشهر وغيره".
وأشار المصري إلى أنّ "العالم اليوم وفي ظل شهر رمضان المبارك يعاني من وباء "كورونا" المستجد، والذي دفع نسبة كبيرة من الناس للعيش بلا عمل، مبيناً أنّ هذا الوباء جَعَلَ المسلمين أمام اختبارٍ صعب للترابط الاجتماعي، يُترجِمه الناس المقتدرون بتقديم العون والخير والبر والصدقات والمساعدات للضعفاء والمحتاجين والأيتام في ظل الركود المجتمعي".
وأكّد أنّه في هذه الحالة يظهر تكافل الإسلام بصورته الجليّة، "نحن نعيش محنة كورونا لتتحول المحنة إلى منحة البذل والعطاء والتعاضد والتكافل، لنرسم البهجة ونطوف على وجوه المعوزين لنستظل جميعاً بقول النبي: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالْحُمَّى، وَالسَّهَر".
كيف يتحقق التكافل
وقال المصري: "إنّ الله فتح لنا أبواب الخير والطاعات لكي نُحقق مفهوم الجسد الواحد في هذا الشهر العظيم، ومن هذه الطاعات أن نحقق التضامن الاجتماعي بطرقٍ شتّى، منها: إطعام الصائمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئاً".
وتابع: "كما يمكن أن نتفقد الفقراء والمحتاجين، والعمال -الذين تعطلت مصالحهم في ظل أزمة كورونا- وجيراننا الذين يحتاجون إلى العون، خاصةً أن الجيران هم أكثر الناس معرفةً بأحوال بعضهم، ولطالما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما روى الإمام أبي داوود في الصحيح: "مَا زَالَ جبرِيلُ يُوصِيني بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنتُ أَنَّهُ سَيُوَرّثُهُ" ولا ننسى أن نتفقد اليتامى سواءً بتقديم يد العون المادية أو المعنوية أو الملابس الجديدة لكي نُظهِر البسمة في هذا المجتمع".
واسترسل: "يجب ألاّ ننسى أرحامنا، كما قال الله -عز وجل- في كتابه: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:215].
وشدد المصري على ضرورة أن يتفقّد أصحاب المؤسسات الإغاثية والجمعيات الخيرية المعوزين بتقديم كل صور المساعدات بدون فضحهم؛ كي لا تكون هذه المساعدة وبالاً عليهم، وأن يكونوا ساترين على الفقراء؛ لأنّ الفقراء أصحاب عزة وكرامة يخافون الفضيحة ولا يسألون الناس أموالهم.
وقال: "إن الله -عز وجل- لمّا أمر المسلمين أن يتكاتفوا ويتعاضدوا جعل هذا وجوباً، فالمُقصّر في حقوق الغير آثماً، خاصةً الأغنياء الذين جعل الله -عز وجل- الأموال في جيوبهم، وهي في الحقيقة ليست لهم؛ لأنّ المال لله، وهذا يحتاج منهم أن يتفقدوا المحتاجين وهم كُثُرْ؛ لأن اقتصادنا في غزة مهترئ بسبب ما نعانيه من الحصار الصهيوني مُنذ ما يزيد عن 12 عاما"ً.
كيف ينظر الإسلام إلى مساعدة المحتاجين وتقصير القادرين
ونوه المصري إلى أنّه إذا كان المسؤول في منصبه قادراً على مساعدة المحتاجين، فهذا يوجب عليه أن يتفقّدهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً وجوباً؛ لأنه إذا قصّر في حقّهم فإنه يأثم، وإذا أردنا أن نتحدث عن مسؤول المِنطقة، أو مختار العائلة فالكُل مطالب بأن يتفقد أفراد المجتمع ومن حوله، لكي تكون المسؤولية مُوسّعة، ونكون متكافلين كالجسد الواحد: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له"، وقوله أيضاً: "خير الناس أنفعهم للناس".
السلف الصالح
ولفت المصري إلى أنّ "الصحابة -رضوان الله عليهم- والسلف الصالح من بعدهم اتفقوا على إعانة الفقير، ومساعدة المحتاج، ونصرة المظلوم، وردع الظالم، وخير دليلٍ عملي واضح على مشروعية التكافل في الإسلام ما حدث وقت الهجرة، عندما شاطرَ المهاجرون الأنصار في ممتلكاتهم عن طواعيةٍ ورضاً من الأنصار".
وتابع: "بالإضافة إلى ما ورد عن عمر -رضي الله عنه- في عام الرمادة فقد قال: "والله الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو أمنعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلاّ كأحدكم، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو يرعى مكانه"، مبيناً أنّ الإسلام دعا للتكافل في العبادة والأخلاق والسياسة والعلم والمعيشة.
التكافل لا يعتمد على الماديات فقط
ونوه المصري إلى أنّ الإسلام أمر بالتكافل الاجتماعي بكافة أشكاله، سواءً كان مادياً أو معنوياً، متسائلاً: "أليست البسمة في وجه أخيك صدقة؟ أليس رسم البسمة على وجوه الفقراء والمساكين واليتامى بإدخال الفرح على قلوبهم له أجر؟ مبيناً أنّ هذا يحتاج منا جميعاً أن نقف أمام التكافل بمفهومه الواسع ودلالاته الشاملة، وألاّ نعتمد على الماديات فقط؛ فبعضنا لا يملك المال، وبعضنا الآخر يملك بعض الأمور المعنوية التي يمكن أن يساعد بها غيره من الفقراء والمحتاجين".
ولفت المصري إلى أنّ من أعظم أنواع التكافل هو التكافل العائلي الذي شرعه الإسلام، ويقوم بين الأصول والفروع والأقارب عموماً، ويتضح هذا التكافل جلياً في قضايا النفقات والميراث والديّات، متسائلاً: "إذا لمْ نكنْ بخيريتنا وتكافلنا وتضامننا مع أهلنا، فما الفائدة مع غيرنا ومع الناس أجمعين؛ لأن الأسرة تعتبر أساس المجتمع كما بيّن الإسلام في مبادئه وتشريعاته".
أهمية التكافل
من ناحيته، قال -عميد كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة- الدكتور نسيم ياسين: "إنّ هذا الشهر الكريم يأتي في ظل ظروف صعبة على الشعب الفلسطيني وعلى الأمة العربية والإسلامية بل على العالم بأسره، الأمر الذي يجعلنا نقف عند أمرٍ مهم وهو التكافل الاجتماعي الذي يؤكد عليه الإسلام وهو قيمة راقية ويعد من الواجبات في كثيرٍ من الأحيان".
وأضاف أنّ الله أمر العباد بالتعاون والتكافل، وقد أثنى على الصحابة الكرام الذين احتضنوا المهاجرين الذين لجأوا إليهم بعد هجرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من مكة إلى المدينة، في قوله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، منوهاً إلى أن ذلك يؤكد على أن الإيثار أمر محبب في ديننا وقد مدحه الله -سبحانه وتعالى- أيضاً قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [آية:71]، وهذه الولاية تقتضي أن يكون هناك تعزيز للعلاقة والثقة والمودة بالتكافل خاصة في ظل الظروف التي نعيشها".
التكافل الواجب والمندوب
وأشار ياسين إلى إن الإسلام أكد على قيمة التكافل، وكان أولها الأمر بالزكاة وهو عبارة عن تعاون وتكافل فرضه الله على المسلمين، فتؤخذ الأموال من الأغنياء وتُعطى للفقراء، وهذا ليس على سبيل الاختيار إنما جُعلت الزكاة واجبة إذا بلغت النصاب والحول ولها شروطها.
واسترسل: "أما الصدقات فمجالها واسع، ولا تقتصر على المال بل تشمل الملابس وإطعام الطعام وغير ذلك"، موضحاً أن هناك نوعان من التكافل وهما:
• تكافل واجب: هو الذي يفرض على صاحب المال أن ينفقه على أقربائه من الدرجة الأولى والذين يرثونه، مثل: الأب على أولاده، والزوج على زوجته، والابن على والديه، والأخ على أخيه إن كان محتاجاً، فالأقربون أولى بالمعروف.
• وتكافل مندوب ومستحب -وهو يشمل الأرحام بشكلٍ أوسع- وبالتالي إذا كان الإنفاق واجباً على من هم واجب عليه، فهذا يأثم ويحاسبه الله على تقصيره، أما إن كان من باب الصدقات فله أجرٌ كبير على ما يعطيه، والإسلام رغّب بالصدقات؛ لما فيها من أجر واستشفاء، ومن قّصر في الواجب فهو آثم وعليه وزر، ومن قصّر في الصدقات فقد أضاع عليه الخير الوفير من الحسنات والدرجات العُلا".
وأكد على أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نفى صفة الإيمان عمّن لا يهتم لأمر جاره، مستدلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِه".
حال السلف في الإنفاق والتكافل
واستدل ياسين بموقفٍ حدث مع عبد الله بن المبارك قائلاً: "إن عبد الله بن المبارك كان يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً، وفي العام الذي أراد فيه الحج... خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره، فوجد امرأة في الظلام تنحني على كومة من القمامة تفتش فيها حتى وجدت دجاجة ميته فأخذتها وانطلقت، فتعجب ابن المبارك وقال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله؟
فقالت له: يا عبد الله اترك الخلق للخالق، فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك! فقالت المرأة له: إن الله قد أحل لنا الميتة، وأنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات ولا يوجد من يكفلنا فخرجت ألتمس عشاء فرزقني الله هذه الميتة، أتجادلني أنت فيها؟ وهنا بكى عبد الله ابن المبارك، وقال لها: خذي هذه الأمانة وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج وعاد إلى بيته ولازمه طوال فترة الحج.
وخرج الحُجاج من بلده فأدوا فريضة الحج، ثم عادوا، وذهبوا لزيارته في بيته ليشكروه على إعانته لهم طوال فترة الحج، فقالوا له: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلساً إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم، ولا رأينا خيراً منك في تعبدك لربك في الحج هذا العام.
فتعجب ابن المبارك من قولهم، واحتار في أمره وأمرهم، فهو لم يفارق البلد، ولكنه لا يريد أن يفصح عن سره، ونام ليلته وهو يتعجب مما حدث، وفي المنام يرى رجلا يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبد الله ألست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة، يا عبد الله، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى، وسترك كما سترت اليتامى، إن الله خلق ملكاً على صورتك، كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج، وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.
وختم ياسين حديثه بالقول: "أؤكد على ضرورة أن نتناسى الزلات والهفوات من الأقارب والجيران فهذا حال البشر، لأن كثيراً من الناس يمتنعون عن مساعدة الآخرين وتحسس أحوالهم لأنهم أخطئوا بحقهم، لذا أقول ليس الإحسان أن تحسن لمن أحسن إليك، ولكن الإحسان أن تحسن لمن أساء إليك وهذا قمة العمل الصالح، بالتالي يجب أن نقدم ونجود بكل ما نستطيع لأجل الله، فكل ما نضعه في يد الفقير يقع في يد الله أولاً قبل الفقير".