لا ريب في أنّ كلّ مسلم يرجو أن يُصَلّى عليه عند موته، وأن يكثر شهود جنازته من الصالحين عسى أن يشفعوا فيه وينتفع بدعائهم وصلاتهم، لكن قد يُحال بين المسلم وبين هذه الفضيلة؛ لأمر من الله وحكمة، فوقتها ما الذي يحدّد كرامات الموت وآثار حسن الخاتمة؟
بداية، علينا أن نعي أننا لسنا من يقوم حَكَماً على آثار رحمات الله تعالى وتدبيره وتصريف أقداره، وإنما غاية ما فيها أن نفهم عنه تعالى ونوقن بحُكْمِه فيها، وكذلك أننا لسنا مُكلّفين بإقحام أنفسنا في حساب منازل الناس الأخروية، ولا مُخَوّلين أصلاً بالحُكم وإنما نتّعظ بالنظر في الحِكَم، وبالتالي ما يفتحه الله من بركات الأثر وجميل الذكر لمن اصطفاهم لجواره، ليس مفتاحاً لعقد المقارنات وموازنة الحسابات بين فلان وفلان ، إنما مكمن العِظَة في تلك المشاهد، أنّ من يذكر الله تعالى يذكره الله ويتولاه، لا شكّ ولا جدال في ذلك، أمّا "صور" الولاية وبركات الأثر فلا يحدّها حدّ ولا يختصّ بها شكل واحد؛ لأنّ ما يخصّ الله به عباده حين يتوفّاهم هو "خصيصة" بين الرب وعبده، قد يُكتب لنا حيناً أن نشهد آثارها في البُشريَات المعلومة، لنتعظ ونعتبر ونُحَثّ على المسابقة في الخير الذي لا ينقطع أثره، وقد يجعلها الله مما لا تشهدها عين ولا يحيط بها إلا ضمير الغيب.
تأمل في مَثَل سيدنا حنظلة بن أبي عامر -عليه الرضوان- الذي استُشهد صبيحة عُرسه وهو جُنُب، فأخبر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مَن حَولَه أنّه يَرى الملائكة تُغَسِّله، ومن هنا لُقّب "غَسِيلُ الملائكة"، وسيّدنا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ -الذي حوصر وانفرد به المشركون في موقعة "يوم الرَّجيع" بعد استشهاد غالب الصحابة الذين كانوا معه في السَّرِيّة- استجار بالله من أن يُمَثِّل المشركون بجسده بعد قتله، ودعا: "اللهمّ إني حَميْتُ دِينكَ أوّل النهار فاحْمِ لي لَحْمِي آخِرَه"، فلمّا قتلوه وأرادوا أن يحزّوا رأسه، أرسل الله الدَّبْرُ (جماعة النحل والزّنابير) تحوم حول جسده فمنعتهم عنه، فقرروا أن ينتظروا إلى الليل لتذهب الدَّبْرُ، فلما جاء الليل أرسل الله طوفاناً حمل جسده -عليه الرضوان- ولم يستطيعوا اللحاق به، ولذلك لُقِّبَ سيدنا عاصم "حَمِيّ الدَّبْرِ"، وَسيدنا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ "الَّذِي اهْتَزَّ لَموته عَرْشُ الرَّحْمَنِ" (متّفق عليه)، "وهَبَط يومَ موته سبعونَ ألفَ ملَكٍ إلى الأرضِ لم يهبِطوا قَبل ذلِكِ" (سنن أبي داود)، كما ورد في أحاديث مناقبه -رضي الله عنه- وغيرهم من الصحابة -عليهم الرضوان- كثير ممَّن شهد لهم المصطفى -عليه السلام- بحسن العاقبة بعد الموت، أو أخبر بكرامات وقعت لهم، أو أُثِرَت عنهم كرامات مشهودة ممّن حضر وفاتهم.
لكنّ المصطفى - عليه السلام - ليس بين أظهرنا اليوم ليخبِرنا مآل كل ميّت، ولا كلّ الكرامات نشهدها أو هي مما يمكن شهوده أصلاً ، فهل ينفي ذلك أن هنالك آلافاً ويزيد من شهداء المسلمين فارقوا عُرس الأرض لعُرس السماء؟ أو هل يمكن أن نَقطَع بانعدام الكرامات لموتى المسلمين إجمالاً؟ وكم مِمَّن يموت بأرض قَفْرٍ لعله لا يشهد جنازته سوى صَبيُّهُ وامرأته، ولعلّ عمله في ميزان الله كجبل أُحُد!
أفلأننا لم نشهد فهو لم يعمل! وما يدرينا أنّ قلة المُصلّين عليه أو عَدَمهم عقوبة له؟ ما يدرينا أنه ليس اصطفاء من نوع آخر! وإن من صلّى الله عليه وتولّاه بالقبول واستقبله بالرضا، ماذا يضرّه أو ينفعه بعد ذلك مُشيّعوه من الناس؟
من صلّى الله عليه وتولّاه بالقبول واستقبله بالرضا، ماذا يضرّه أو ينفعه بعد ذلك مُشيّعوه من الناس؟
ودونك مَثَل سيدنا عثمان بن عفّان -ذي النورَيْن عليه الرضوان- صاحب المناقب الفريدة والخصال الحميدة وشهادات المصطفى -عليه السلام- له بالحُسنى، ومع كلّ ذلك استُشهد -رضي الله عنه- في ظروف فتنة دَهْماء، وأورد ابن كثير في البداية والنهاية صفة قتله الرهيبة وتقطيع أنامل زَوجِه نائلة بنت الفرافصة حين تحامت له، ودُفِن جسده الشريف في عجالة بين المغرب والعشاء خِيفة من الخوارج الذين أرادوا رَجْمَه ودفنه في مقابر اليهود! ولم يحضر جنازته سوى نفر قليل من الصحابة وزوجتاه وصبيّاه.
ومَثَل آخر، الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير بن العوّام -رضي الله عنهما- أبوه حَوَاريّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمه أسماء وجدّه الصّدّيق -عليهم جميعاً الرضوان- وهم من هم في منازلهم المشهودة لهم عند الله ونبيّه، وعلى ذلك قُتِل وقُطِعَ رأسه وصُلِب باقي جسده -رضي الله عنه- وظلّ أياماً حتى أُنزِل، ثمّ دفنه وصلّى عليه أخوة عُرَوة -رضي الله عنه- فيا لها من مِحَن... ويا لها من مِنَح!
ووالله ما ضرَّ أولئك الصالحين وغيرهم ظروف وفاتهم ودفنهم وقلّة من صلّى عليهم، فكلهم إلى الحقّ سبحانه رَجَعوا، وبالحَقّ خَلَّد الله ذكرهم وأجرى على الأَلسِنَة ثناءهم والترحُّم عليهم ليوم الساعة، فمن أوقف الله له خلقاً يترحَّمون عليه فذاك رزق، ومن أوقف له ملائكة يَغسِّلونه فذاك رزق، ومن تولَّاه الله رأساً فذاك رزق، والرزاق فيها جميعاً واحد والمَردُّ فيها جميعاً إليه وحده، فالفضل من عند الله، والمَرجَوُّ وجه الله، فالحمد لله الذي لا يضيّع عبداً رجاه.
من شاء الأثر قدَّم له المسير، والمسير الذي يُذكَر ويؤثّر ويرتفع حقاً ولو لم نشهده عياناً، هو الذي كان لله خالصاً، مهما قلّ وصغُر وتعثر
هذا والذكر بالدعاء وغيره من الأثر الصالح بعد الموت ليسوا تعويضاً عن التقصير والغفلة والتفريط في حق الله تعالى، بل هو نتاج رابط وثيق بينك وبينه سبحانه، فكأنّ الموت لا يقطع على المؤمن عمله بل يكون امتداداً له من وجوه أخرى، بما يُهديه ربُّه من أسباب فضل جزاء سابق تقديمه، وما يُضاعَف له من حبّات ما زرعَ من سنابل، فالذكر حصاد وثمرة لما نزرع، وليس زرعاً بعد أن انقطع بنا الغرس، فلا نمنّي أنفسنا في محصول لم نتخذ له طلباً، ولا في رِفعة تُوهَب لنا بعد موتنا، ونحن لم نرتفع بأنفسنا في حياتنا، فمن شاء الأثر قدَّم له المسير، والمسير الذي يُذكَر ويؤثّر ويرتفع حقاً ولو لم نشهده عياناً، هو الذي كان لله خالصاً، مهما قلّ وصغُر وتعثر، الله سيُرْبِيه ويتولاه وينبته نباتاً حسناً، كيف شاء وكيف أراد سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]، لذلك حذار من سعي كلّ بُغيته الأثر والذكر والرفعة والرياء، فذاك يُوكَل إليه صاحبه ، وأوّل من تُسَعَّر بهم النار عالم ومتصدق وشهيد، زعموا أنّ أعمالهم في الله ولم يريدوها حقيقة إلا "ليُقَال" عنهم كذا، فقد نالوا مقالة الناس وخسروا ثواب ربّ الناس، فأي الذِّكرَيْن كان أنفع لهم لو فقهوا!