الابتلاء في الدنيا من سنن الحياة فيها...
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: "من يريد أن تدوم له السلامة، والنصر على من يعاديه، والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف ولا فهم التسليم".
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: "قال لي شيخ الإسلام مرة: "العوارض والمحن هي كالحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغضب لورودها، ولم يغتم لذلك ولم يحزن".
وبعض الناس يظن أن #الابتلاء لا يكون إلا للمؤمنين، وأن الإيمان تلزم معه الشدة، ومع الكفر السعة والعافية، وهذا خطأ كبير.
الابتلاء في الحياة الدنيا سنة إلهية، تطال المؤمن والكافر، وهو للمؤمن ابتلاء ورحمة، وللكافر عقوبة وسخط .يقول ابن القيم: "ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يُعجز ربه تعالى ويفوته، بل هو في قبضته وناصيته بيده، فله من البلاء أعظم مما ابتلى به من قال: آمنت".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (الحسنة والسيئة): "والمقصود أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس سبباً لشيء من المصائب، ولا تكون طاعة الله ورسوله قط سبباً لمصيبة، بل طاعة الله والرسول لا تقتضي إلا جزاء أصحابها بخيري الدنيا والآخرة".
يبتلي الله في الدنيا الجميع...
يبتلي الكافر الظالم الخبيث، ويبتلي الكافر الطيب الرحيم، ويبتلي المؤمن الظالم، والمؤمن المقتصد، والمؤمن السابق بالخيرات، يبتلي الله الجميع، ولا تكون عاقبة الابتلاء واحدة، بل تكون على حسب نسبة الإيمان ونسبة الطاعة ونسبة الإحسان.
وعندما يبتلي الله، فإنه يشدد في ابتلائه في أحيان، ويضيق في خناقه، حتى تضيق على المبتلين الأرض بما رحبت، ثم تضيق عليهم أنفسهم، وعندها يُنتظر الفرج من الله.
في قصة الثلاثة الذين خُلفوا قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
وفي قصة غزوة الخندق قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] فإذا اشتد البلاء اقترب الفرج...
قال الشاعر: اشتدي أزمة تنفرجي، وقال آخر: ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت... وكنت أظنها لا تفرجُ.
عندما يبتلي الله عباده، ينتظر صبرهم وتضرعهم، فإن هم تضرعوا كان لهم شيء من اثنين، إما عافية من البلاء وأجر على التضرع، وإما جزاء كامل تام إن هم تضرعوا وصبروا على البلاء حتى نهايته، وكانت نهايته -لا قدّر الله- عدم العافية منه.
ليس لزاماً على الله أن يعافي المتضرعين، واللازم عليه ما ألزم به نفسه -سبحانه وتعالى- من الجزاء للصابرين، والأمر يشبه إلى حد كبير الجهاد في سبيل الله، فإنها إحدى الحسنيين في النهاية، إما نصر وظفر، وإما شهادة وجنة، وقد يجمع الله بين العافية والجزاء، وهذا ما يحدث كثيراً.
عندما يبتلي الله عباده، ينتظر صبرهم وتضرعهم، فإن هم تضرعوا كان لهم شيء من اثنين، إما عافية من البلاء وأجر على التضرع، وإما جزاء كامل تام إن هم تضرعوا وصبروا على البلاء حتى نهايته
الرعب الذي ينتشر بين الناس، ويزداد يوما بعد يوم، بسبب هذا الوباء، هو من أشد البلاء، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "من بات آمناً في سربه..." إلى آخر الحديث، والأمان هنا ليس أمانا من عدو بشري فقط، ولكنه الأمان من أي خوف، وإن أكبر الخوف، ما يكون من مثل هذا الوباء، الذي ينتشر في الناس انتشاراً مخيفاً، ولا تنفع معه أي إجراءات احترازية، فالاختلاط بين الناس ضرورة حتمية، فلا حياة بغير اختلاط وعمل وبيع وشراء.
لا ملجأ من الله إلا إليه في ما نحن فيه، وقد ضاقت جداً، وليس منتظراً إلا الفرج، فاللهم فرجاً.