برّ الوالدين ليس مكافأة لهما على إحسانهما، بل فرض أوجبه الله سبحانه على الأبناء المُكَلّفين، يجب عليهم أداؤه، مهما كان حال الأبوين من الإحسان أو عدمه، فلا بد من الفصل بين جهة تكليف الوالدين، وجهة تكليف الأبناء، وكلّ محاسَب على جهته عند الله، ولا يُعفيه من مسؤوليته التحجّج بتقصير الآخر في جهته، خاصة الأبناء.
برّ الوالدين لا يستلزم رضا الابن عنهما أو محبّته القلبية لهما، بل ما دام يبذل ما يستطيع في برهما والإحسان إليهما، فليحمد الله على ذلك وليُبشِر بخير، ولا يضرّه بإذن الله ما لا يملكه من الميل القلبي، وقد كان المصطفى -صلّى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ بين أزواجه فَيَعْدِلُ، فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ" (رواه أصحاب السنن).
والحب -وإن كان معيناً على البرّ والإحسان للمحبوب- فليس شرطاً لهما؛ لأنّ البر والإحسان محلّهما ظاهر المعاملات ووسيلتهما الجوارح بالأساس: أدب النظر وطيب القول ورفق النبرة، ولين المعاملة والخدمة والرعاية، وسعة الصدر والمُداراة والتغاضي، والطاعة في المعروف، والبعد عمّا ينغّص... إلخ، وكلّ هذا لا يتطلب من قلب المؤمن إلا أن يَقَر فيه حبّ الله ورسوله وتعظيم أمرهما، ثم لا يضرّه بعد ذلك أن يخالف أصحاب الحقوق هواه؛ فالله يوفّقه للعدل في الغضب والرضا، لذلك فبرّ المعاملة في وُسعِ المُكلَّف بتوفيق الله.
الحب وإن كان معيناً على البرّ والإحسان للمحبوب فليس شرطاً لهما
ولينتبه كلّ مُكَلّف أنّ كلّ أشكال العقوق تُحتسب عقوقاً في الشرع ويُؤاخَذ بها العاقّ، سواء تألّم منها الوالدان أو لم يتألّما ، وسواء أظهرا الغضب منها أو التغافل عنها أو الرضا بها؛ لمحبتهما للولد وتدليلهما له، والعقوق درجات تبدأ من المخالفات الصغيرة أو المُحقَّرات كالنظرة، وصولاً لتعمّد الإضرار بهما أو إحزانهما أو إيذائهما معنويًّا أو جارحيًّا.
وحين يعمُر المسلم ذاته بمعارف الاضطرار، وتستقيم عنده موازين الشرع، سيجد أنه لا يلزمه موافقة والديه على الدوام في كل مطالبهما منه وقراراتهما له، وإنما الموافقة قد تجب وقد تندب وقد تَحرُم وقد تُباح، ولكلّ مواضعه وموازينه، لكنّ الثابت في كلّ أولئك وجوب بِرّ والديك أي التلطف بهما والتذلّل لهما ومحاولة استرضاءهما... إلى آخر معاني البر وصوره التي أقرها الشرع.
بل حين لا يُكلَّف الابن طاعة والديه في معصية، أو حين يباح له الاختلاف معهما، لا يجوز له الرفض إلا برِفق وحكمة، دون إساءة لهما بالقول أو غيره؛ لأنّ عدم موافقتهما يتحقَّق بالفعل بعَدَم مجاراتهما لا بالإساءة لهما، وذلك مصداق قوله تعالى: {فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
ويظلّ على الأبناء الاحتراز من مخالفة الوالدين عامة، فلا يُقدِمون على المخالفة الهوائية اغتراراً بظواهر الأمور أو ما جرى عليه العرف، دون مراجعة الشرع واستفتاء أهل العلم أوّلاً.
وإذا أدى المُكَلّف ما يجب عليه من البرّ والرعاية والإحسان، فلا يضرّه -إن شاء الله- عدم رضاهما عنه أو عن نهج حياته -طالما كان موافقاً للشرع- بل ولا يضرّه كذلك بإذن الله دعاؤهما عليه ما دام بغير وجه حقّ.
عِظَم حقّ الوالدين على الأبناء لا يعني أنّ لهما حق التصرّف المطلق فيهم، أو التسلّط عليهم تعنّتاً وإضراراً
هذا وعِظَم حقّ الوالدين على الأبناء لا يعني أنّ لهما حق التصرّف المطلق فيهم، أو التسلّط عليهم تعنّتاً وإضراراً، أو إبطال حقوقهم المشروعة في الخيارات والقرارات، بالتحّكم المتجبّر في شؤونهم وتجاهل كونهم راشدين مسؤولين وذوي حقوق كذلك.
لذلك على الأبناء -كما الوالدين- الحرص على معرفة الحدود الشرعية للمعاملات والحقوق بينهما؛ كي لا يقع تفريط أو إفراط باسم الله أو شرعه، وحتى لا تثقل على الأبناء خاصة تكاليف يحسبونها من البرّ وليست منه، فيُخِلُّون بتكاليف أخرى هي من البرّ حقّاً!