جاءت لحظة الوداع وكعادة الزمن الجميل والوقت الجميل ما أن يحط رحاله إلا وشمس غروبه إلى أفول، وهكذا رمضان الخير ما أن يبزغ علينا هلاله حتى يعاجلنا هلال شوال وكأن ما بين الهلالين كما بين الأذان والإقامة وعجلة الزمان تمر بنا مسرعة فلا يبقى من أثرها على نفوسنا إلا من أخذها وأقبل عليها إقبال الظامئ على الماء في يوم شديد الحرارة.
وكثير من يقف على أطلال رمضان مودعا أوقاته بقلب كسير حزين وشتان بين مشاعر الوداع والفراق لرمضان فوقع الوداع على نفس المحب أقل وطأة من وقع الفراق فتجد المرء يحمل نفسه على العهد ويعللها بذلك لحين تجدد لقاء آخر، فثمة أمل بلقاء بعد الوداع لكن الفراق فيه من المعاني ما تشتد وطأته على النفس وكأن سوراً ضُرب بينك وبين من تفارق، فلا يعنيك ما قطعته من وعود ولا بقي بينك وبينه للصلة مكان.
والبعض يشعر بحرقة لمضي رمضان فتظلله غمامةٌ من الأسى وكأن جزءاً من سويداء قلبه قد انتزع منه انتزاعاً، ومن هنا كان لزاماً على النفس أن تستحضر ما يعينها -لا أقول على تَحمّل وداع رمضان وارتحاله، بل- على ما يبقي رمضان قائماً فيها على مدار الأعوام، برغم ارتحاله فيرافقها في أحوالها إلى أن يأذن الله للنفس أن تبلغ أعواماً عديدة من رمضان، أو أن تنال أجر ذلك بنيتها الصادقة إن قضت.
وهنا وفي أجواء الألم والأسى قرعت باب ذاكرتي لحظة من أهم اللحظات التاريخية والإيمانية في حياة المسلمين وهي انتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للرفيق الأعلى والتي تفوق في وصفها وصف أي ألم كان أو سيكون، حتى إذا ما أُذيع خبر وفاة النبي الكريم أسقط بما في أيدي القوم فتجد مواقفهم اختلفت وتباينت فمنهم:
القسم الأول/ ارتد عن دينه مما شكل ذلك من العبء على كاهل الخليفة الأول ما لا ينكره بشر وكتب التاريخ تفيض بأخبار ذاك الوقت.
والقسم الثاني/ لم يصدق ما سمع من نبأ، لتجد ابن الخطاب يحمل سيفه مهدداً من سمحت له نفسه بترديد ذلك.
والقسم الثالث/ وقف راسخاً كما الجبال يردد على مسامع القوم قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فثاب الصادقون إلى رشدهم وعلموا أن من حسن الوفاء والبقاء على ذكرى الراحل أن تحيي ذكراه وذلك باتباع أثره والمحافظة على عهده وميثاقه.
والأشد غرابة في توديعنا لرمضان الخير وتباكينا لفراقه أننا ننقسم لمثل تلك الأقسام التي انقسم إليها القوم عند انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، لتجد قسماً منا مع غياب شمس آخر يوم في رمضان خلع من رقبته كل ما التزمه بشهر كامل وكأنّ هذا الشهر كان له قيد وسجن إجباري وحان موعد تحرره ورحيله منه، والبعض صارت بضاعته مزجاة فنسي عباداته المتنوعة في رمضان وشكت منه المصاحف والمحاريب هجره لها بل وأقاربه أرحامه وإخوانه وأخذته الحياة في سكرتها، والقلة القليلة ثبتت على النهج والخطوات؛ لأنّ رب رمضان هو -جل شأنه- رب الشهور الأخرى فظلت نسائم رمضان تمر بروحه وتوقد العزم في قلبه كلما أوشك على كسل أو نصب.
وعلى هذا فإن من يعبد رمضان خاب وخسر؛ لأنّ رمضان ما هو إلا أيام معدودات وإن طال، ومن يعبد رب رمضان لم يعدم الأثر، فمن يتقرب لرب رمضان ويعبده ويلوذ به إنما هذا ديدنه لا يفرق بين الأيام والأسابيع بل والشهور والأعوام، وإليك -أخي القارئ- بعض المقترحات لتظل نسائم رمضان وأجواء رمضان ملازمتك مرافقتك بلا وجع غياب ولا ألم فقد:
أولاً/ ابق على صلة مع مسبب الأسباب فلا تنشغل بالأسباب عن مسببها ولا تنشغل بالمخلوق عن الخالق ولا بالعبادة عن المعبود ذاته، بل إنّ هذه العبادات وسائل تقربنا إلى الله وهي مطيتنا في درب السير إليه فإياك والانشغال بالمطية عن الوجهة والغاية والمقصود.
ثانياً/ حافظ على وردك من تلاوة أو قيام أو ذكر وليكن هذا الورد على قائمة الأولويات لا على الهامش ولا تتركه لفضول وقتك وراحتك وسعيك.
ثالثاً/ ليكن رمضان هذا نقطة وبداية للتغير الجذري في حياتنا فنعظم شعائر الله في نفوسنا ومجتمعاتنا.
رابعاً/ تذكر أن سنة الله في الشهور والأيام واحدة وثابتة؛ فرمضان -لا محالة- عائد لكن هل نحن باقون لنستقبل عودته أم ستطوى حياتنا بين الأكفان والقبور، فاحرص على أن تكون ربانياً في كل أوقاتك لا رمضانياً، فمن كان ربانياً لا رمضانياً أدرك الأجر وإن لم يدركه قياماً وصياماً.
نسأل الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.