وقفات تربوية مع النفس (2-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » وقفات تربوية مع النفس (2-2)
muslim4

القرآن الكريم خطاب الله الخالد والحبل المتين ما بين السماء والأرض، رحمة مهداة لا يضل من سار على نهجه، بل لا هداية إلا لمن سار على نهجه وتخلق به قولاً وعملاً وجلس لمائدته ينهل من ينبوعه يتدبر آياته وأحكامه وأخباره وإعجازه، فيصغي إليه بكل جوارحه وكيانه، وكأنه الآن نزل عليه يخاطبه بعينه، حتى إذا كان هذا نهج المسلم مع كتاب ربه نشأ جيلٌ صحابي جديد يعز الله به الإسلام ويصلح ما أورثتنا إياه العادات الغربية والجاهلية، إذ فيه من القيم والمعاني ما يجعلنا أغنياء عما سواه.

والقصص القرآني من أحسن القصص، وفيه من الدروس والقيم التربوية ما تؤنس نفس المسلم في غربته بقيمه عن القوم، وما انتشر بينهم من قيم يستحدثونها ولفرط جهلهم وجهالتهم غشيت الغشاوة بصرهم وبصيرتهم، فما أدركوا أن كتاب ربهم ومعجزة نبيهم فيه من القيم ما يجعل العالم يدين له بها فقط لو ألقى أذني قلبه ورأسه لكلام ربه، ولتجاوز المسلمون بذلك تبعيتهم وانسلاخهم من هويتهم وثقافتهم وشرعة ربهم.

ثلاثة من صحابة رسول الله خلّد الله ذكرهم في العالمين، لا لعمل بطولي أو فدائي أو تضحية بمال أو نفس أو ولد، كلا بل بتخلفهم وتقاعسهم عن اللحاق ومتابعة جيش رسول الله في غزوة تبوك، عجيب أمر المسلم وإن أمره كله خير، وفي ذنبه ومعصيته قد يرفع الله شأنه فقط إذا استعظم ذنبه  ولو كان صغيراً؛ لأنه يدرك عظمة من عصاه، فيقبل على ربه مخبتاً تائباً نادماً فيقبل الله عليه، وهل يعرض الكريم عمن أتاه جاثياً على أعتابه منطرحاً بضعفه وعجزه وفقره؟

ثلاثة تخلفوا عن الغزوة بلا عذر فصدقوا رسول الله، مع أنّ بضعة وثمانين رجلاً تخلفوا عن الغزوة وتقدموا بين يدي رسول الله بأعذارهم الواهية فقبل رسول الله منهم العلانية وترك أمر سرائرهم إلى الله [الحديث مطولاً في البخاري]، إلا أنّ هؤلاء الثلاثة -وعلى رأسهم كعب بن مالك- آثروا طريق الصدق؛ لأنه لا تخفى على الله خافية وإن خُفيت عن بشر.

وما أشبه النفس الإنسانية بهؤلاء الذين تخلفوا فكذب منهم من كذب وصدق منهم من كان ينظر لمآلات الأمور وحقائقها لا من يقف على ظاهرها ونفعها الدنيوي، فكل نفس بين جنوبنا فيها كعب بن مالك وصاحباه، وما أكثر ما تتهاون النفس في أمر من أمور الله وتولي له ظهرها -لا إنكاراً ولا جحودا ولكن- تسويفاً حيناً وهزلاً وتقاعساً حيناً آخر، أو ربما لانشغالها بأمر الدنيا وتكالبها عليها ونسيانها وغفلتها عن دار مستقرها وخلودها.

ما أكثر ما تتهاون النفس في أمر من أمور الله وتولي له ظهرها -لا إنكاراً ولا جحودا ولكن- تسويفاً حيناً وهزلاً وتقاعساً حيناً آخر، أو ربما لانشغالها بأمر الدنيا وتكالبها عليها ونسيانها وغفلتها عن دار مستقرها وخلودها

ولوجه الشبه بين النفس الإنسانية في تخلفها وتهاونها عن القيام بأمر الله وبين الثلاثة الذين خُلّفوا، فإن ثمة وقفات تربوية لا بد من الوقوف عليها كي لا تقع النفس أسيرة لحبائل الشيطان فتواصل مسيرها حتى عند كبوتها وعثرتها، فلا تفر في ضعفها وعجزها إلا إلى الله ليستقيم أمرها فتنهض من كل عثرة أقوى ومن كل كبوة أوعى وأفقه في حالها ومآلها، ومن هذه الوقفات:

1. الصدق: سواء صدق الإنسان مع نفسه أو مع من حوله؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا" (سنن أبي داوود)، ففي الصدق النجاة ولو كان فيه إدانة لنفس يترتب عليها مغرم وإن أوهمتك ثقافة اليوم غير ذلك.

2. الولاء لله ولرسوله: فهؤلاء الذين خُلّفوا هجرهم وقاطعهم أقرب الناس إليهم -أزواجهم وأهليهم- التزاماً بأمر الله ورسوله، فلا مجال لأن ترق النفس وتخالف أمر الله ورسوله، كل الأحاسيس والأفكار والمشاعر والسلوكيات إنما هي تبع لأمر الله تعالى، فلم تجد رجل أو امرأة تعذر بأي عذر ليبقي حبل الوصال بينه وبين هؤلاء الثلاثة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب:36].

3. الضيق الحقيقي والكدر المؤلم إنما هو معصية أمر الله؛ فالمعاصي من أسباب الضيق، فلا يتهاون المرء بمعصية وإن صغرت وإنما ينظر لجلال وعظمة الله، ألم يقل جل شأنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]، فالسعة وبحبوحة النفس إنما باتباع أمر الله.

4. الله يغفر الذنوب جميعاً، فقط أقبل عليه بصدق وابك على خطيئتك وأظهر الندم حقيقة لا تظاهراً: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

5. طلحة -رضي الله عنه- الذي قال في حقه كعب بن مالك: "لا أنساها لطلحة" يظهر كم المشاعر من الحب الدفين في قلبه لكنه تجاوزها وقاومها وأمضى أمر الله ورسوله وقدمه على هوى نفسه ومشاعر قلبه، فكان أول من ابتدر كعباً عندما تاب الله عليه، فنتعلم منه كره المعصية ورفضها لا كره ورفض العاصي ذاته، حتى إذا آب وعاد وسعنا له في صدورنا وقلوبنا.

6. في مقاطعة الثلاثة الذين خُلِّفوا عن رسول الله شكلٌ من أشكال محاربة المعصية واجتثاثها، فيبقى العاصي في أحضان مجتمعه؛ كي لا نجمع عليه أمرين: المعصية والشيطان فيتلقفه وينسلخ به من مجتمعه كما فعل ملك غسان إذ أراد أن يشق صف المسلمين ويصطاد في الماء العكر بطلبه من كعب أن يلحق به، وإما يظل تحت رقابة المجتمع المسلم كي لا يتبع معصيته بمعصية فتستدرجه شياطين الإنس والجن بخطوات متتابعة لما هو أعظم وأشد خطراً.

7. كُثر أولئك الذين -بحجة الخوف عليك والحرص على مصلحتك- يبذلون جهدهم لثنيك عن عزمك، ويزينون لك المراوغة أو يختلقون لك الأعذار للخلاص من مواجهة الحقيقة والهروب من تبعات ما يترتب عليك من مخالفة الأمر، والشجاعة الحقيقية أن تواجه أخطاءك مواجهة شريفة فتصحح ما اعوج فيك لا أن تهرب باعوجاجك.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …