وقفات تربوية مع النفس (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » وقفات تربوية مع النفس (1-2)
muslim

قراءة السيرة النبوية وأحداثها ليست من قبيل المتعة الفكرية والترفيه الفكري وزيادة في أرصدتنا المعلوماتية، والنظر في أحوال وأفعال القوم وإطلاق الأحكام عليها؛ فإن الذي يقرأ التاريخ المحمدي وسيرته العطرة بهذه النفسية لهو أعجز من أن يضيف لبنة واحدة في بناء وتربية نفسه وبالتالي في بناء صرح هذه الأمة فينطبق عليه قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].

وإنما تثمر قراءة السيرة في نفس القارئ ويؤسس بنيانه من هذه القراءة عندما يعيش أحداثها بروحه وقلبه وفكره وكأنه يعيش في ذاك الزمان حقيقة فيتلقى أمر الله ونبيه وكأنه خطاب لشخصه ويمتثل أمر الوحي من خلال رسوله فيأخذ منه التوجيهات ويعرض عليه ما أشكل عليه فيقدم حيث كان الأمر بالإقدام وينتهي ويحجم حيث كان النهي، وإن حدث وتعثرت النفس وسقطت في شباك مخالفة لأمر أو مواقعة لنهي يوقف نفسه للمحاسبة دون تسويف أو تأجيل ويستبصر ما يترتب على ذلك من أفعال تطهره من لوثة هذه المعصية أو عقوبة ذاك الأمر ويستشعر بها الرحمات الربانية فيستقيم له بذلك أمر نفسه ويتلطف في نظرته للمجتمع من حوله نظرة الرحمة والسعة والرأفة لا تلك النظرة المستعلية على حكمة الله والمحاكمة لقضائه وقدره.

مما استوقفني في غزوة أحد تلة الرماة وأهمية دور المرابطين عليها في سير أحداث الغزوة، فإذا ما استشرفوا النصر ولاحت بوادره غرتهم أفول جيش المنهزمين وتساقط الغنائم من خلفهم وظنوا أنه ما من داع في متابعة الوقوف والتزام أمر النبي فيه وطلائع النصر تثير فيهم حماسة الجندي ونشوة انتصاره، فلم يتحققوا من أن الحرب وضعت أوزارها فغادروا مواقعهم دون أمر من القائد الذي أوقفهم فيها مما أدى ذلك لتغيير الموازين وتكبد المسلمين لخسائر وتضحيات.
وما أشبه النفس الإنسانية التي تكمن في داخل كل منا بتلة الرماة في أحد، فتلة الرماة هي نفسها النفس الإنسانية التي كلف الله صاحبها وأوكل له مهمة الوقوف على حدودها وثغورها، فلا يركن إلى انتصارها في مجال ما ويفارق ثغره عند بداية قطف ثمر الغرس فيتعجل الحصاد قبل الأوان؛ لأن النفس الإنسانية في المجتمع المسلم إنما هي جزء من عِقد منتظم حباته ولبنة من ضمن لبنات أُخر فهي تتجاوز النظرة الفردية، ولأن الزعزعة أو الخلل في هذه النفس إنما هو اضطراب في العقد كله وزعزعة في جسد الأمة كلها.

وتلك الغنائم هي شهوات الدنيا وزينتها وزخارفها والتي في سعي الإنسان المحموم من أجل حيازتها واللهاث الدائم في الانكباب على تحصيلها يفرط في الثغرة التي أوقفه الله للرباط عليها فيكون ذلك منشأ التقصير والتفريط فيما أوجب عليه أمراً أو نهياً، فيكون بذلك الثغرة التي يتسلل منها الداء لجسد الأمة ولا عجب من أن تكون ثغرة سبباً في تسلل الأوبئة للأمة كلها وما ذلك إلا لأن النفس جزء لا ينفصم عن المجموع بل هي أساسه.

ولأن نفسك التي بين جنبيك هي مناط مسؤوليتك فعنها تُسأل وتحاسب وهي مدار سعيك وخط دفاعك وهجومك الأول فإن أي تفريط أو غفلة عنها تكون بداية الهزائم والانتكاسات فلا فلاح إلا بتزكيتها ولا خسران إلا بدسّها؛ لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9-10]، وإن أية محاولة لاستدراك ما فات وتصحيح خطوات التعثر وتدارك الأخطاء وقلب الموازين كل ذلك إنما منشؤه النفس ابتداء، فما على العبد المؤمن بالله الموقن برسالة نبيه المتعظ بأحداث التاريخ والمقتدي بسيرة السلف الصالح إلا أن يعود لثغره وتلته في حراسة ظهر الأمة فلا يؤتين من قبله، وأن يثبت على إصلاح شأنه غير آبه بما يدور حوله من مكاره أو شهوات فلا يترك ثغره إلا بأمر من ربه، وهو موقوف عليه ما دام فيه نفس من حياة.

ومن أهم الدروس والعبر التي على العبد المسلم أن يعيها ويفقهها فقها مستمداً من شريعة ربه وسنة نبيه:

1. مسؤولية الإنسان الأولى إنما هي نفسه التي بين جنبيه فلن يؤدي عنه أحد واجبه اتجاهها؛ لأنها الثغر الذي أوكل إليه بحراسته وحفظه من اللحظة الأولى، فلا يضيّع ما كلفه به ربه جل وعلا.

2. لا ينشغل بفروض الكفايات تاركاً أهم فرض من فروض الأعيان المفروضة عليه تحت أي مسمى دعوي أو بطولي.

3. إن التزام كل فرد بأداء الواجب الذي عليه اتجاه الثغر الذي أوكل إليه إنما يصب ذلك في مصلحة المجموع وتراصّ الصفوف ومساندة بعضها البعض.

4. نفسك هذه هي الثغرة التي إن وهنت أو تكاسلت عن أمرها وأداء ما عليك اتجاهها إنما هي منفذ للأمة كلها فأي غفلة أو طرفة عين منك عنها، تكون سبباً في هزيمة نكراء تلحق بالأمة وبداية لانفراط العقد الذي أنت جزء من نظمه.

5. الوقوف على ثغرك يقظاً فطناً محافظاً عليه إنما هذا هو جهادك الحقيقي، والجهاد في هذا الميدان لا يحد بزمان أو مكان فلا يحد بمرحلة مؤقتة بل هو ملازم لك طوال رحلة حياتك، كما أنه ليس رحلة ترفيهية بل فيه من المشاق ما لا يخفى على عاقل ولا يعقل أن يخرج إنسان من معركة بلا جراح أو آلام فهذا من طبيعة الرحلة والمسير في هذا الدرب وحسب المؤمن أنه لا يضيع عند الله مثقال ذرة، وبصدق السعي يأتي المدد والقبول.

اللهم نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …