وهذه سلسلة مقالات من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول خلاصات عامة، والجزء الثاني عن التعلق بالجنس الآخر، والجزء الثالث عن التعلق بنفس الجنس.
أولاً/ خلاصات عامة
1) مدى هواء القلب وخِفّة تقلباته في هوى الخلائق مرتبط قطعاً بطبيعة صلة القلب بربه؛ فالله تعالى وحده من يربط على قلب المؤمن ويهديه ويلهمه رشده ويحفظه من تلاعب العلائق، وبحسب متانة صلة القلب بربه وعمقها ويقين صاحبها فيها، يكون مدى تخبط قلبه أو استقراره.
مدى هواء القلب وخِفّة تقلباته في هوى الخلائق مرتبط قطعاً بطبيعة صلة القلب بربه
2) معايير إعجابك ووجوه التفات قلبك وعلائقه تعكس أول ما تعكس صورة روحك وجوهر نفسك، أو مكامن نقصها وحاجاتها، أو الاثنين معاً، وكما أن عِلَّات العلائق تنبُت في القلب فكذلك دواؤها منه، لذلك فحلّ جذور إشكالية التعلق القلبي واستمراره يبدأ بالنظر في أولئك، وإصلاحهم في نفسك أولاً.
3) من حقائق الوجود وطبائع البشر أن ما يُرى عن بعد ليس مطابقاً بالتمام لما يُرى عن قُرب ، إدراك هذه الحقيقة وتذكير النفس بها يساعد على التحرر من متلازمة كمال مثالية الطرف المرغوب به، وتعليق معنى الوجود وقيمة الحياة بالظفر به كأن الأرض لم تنشق عن شقيقه أو كأن الأرحام عجزت أن تنجب مثله!
4) الحب ليس كتلة صمّاء طهرٌ كلها أو دَنَسٌ كلها، بل هو أنواع ودرجات ، فيها من أطواق الحمائم وأنوار الملائكة، كما أغلال السعير رؤوس الشياطين، وكذلك التعلق ليس خطراً كله ولا مذموماً كله، بل منه ما يتعايش معه صاحبه ويُقبَض منطوياً عليه! كل ذلك متوقف على أصل القلوب التي جمعتها العلاقة، وطبائع نفوس أصحابها، وردود أفعالهم.
5) والحب -عامة- جميل، ولجماله أَخْذَة كالسّحر، والحب كذلك حظوظ نفس، ولحظوظه مخالب كالنمر، فكلما صعب على النفس تحصيل حظها من محبوبها -أو مردود محبتها بتعبير آخر- بالتملك أو نوع تواصل يُشعر بالحضور والوجود، وإرواء الشهوة، واستشعار المبادلة المعنوية... وغير ذلك من أنواع المردودات، انغرست مخالب الوَجْد في وجدان صاحبها فكانت سبب الآلام التي يقاسيها غالب المحبين ممن لم يظفروا بمحبوبيهم أبداً، أو لم يظفروا ظفراً كاملاً، إدراك هذا الوجه وتلك الجذور يعين على كشف غشاوة التجرد عن عين المتعلق، بتلبيس أزمته بمسمّيات درامية نبيلة تشعره أنه ضحية الوجود وربيب الأحزان وقربان القدر، وتمده بمبررات للتسليم المستسلم لنِبال ذلك النّبْل ولوم الأقدار الجائرة والقلوب القاسية غير المتجاوبة معه!
6) ولا يَسلَم جمال حب من مخالب إلا أن يكون لله وفي الله، وهذا عزيز على كثرة الدعوة له والكلام عنه، بل لعلّ الكلام كَثُر جبراً لنقائص واقع الحال.
7) العلاقات رسائل -مقصودة أو غير مقصودة، منطوقة أو غير منطوقة- فعلى كل مرسل لرسالة أن ينطق بقصده ويقصد منطوقه، وعلى كل مستقبل لرسالة أن يستوضح عما وصله ولا يطوي صدره على تخمينات وظنون، وكلٌّ مسؤول عن جهته فحسب، ولا تزِر وازرة وِزْر أخرى، فليس على مرسل حِمْل تَكَلّفِ مستقبلٍ تَأوَّلَ ما لم يُرسِل ولا على مستقبل تَبِعَة الفهم عن مرسل لم يُبِن.
8) الإفصاح والمصارحة لا ينافيان الأدب والترفق في إيصال المقصود، والأدب والترفق لا يعنيان المخادعة والتلبيس، والتصريح بالرفض أو عدم القبول خير ألف مرة من أنصاف الإقبال والصدود، التي توقِع الطرف الآخر في حيرة مؤلمة؛ لأن نصف الصدود يزيد التعلق بما يضاعف من أمل المردود! وليس كل متعلق عنده من العقل أو يحضره من العقل (وعزّة النفس) ما يعينه على تلقط الإشارة وفهم التلميح والكفّ عند حدّ معين عن المحاولة من جانب واحد، وهذا الشد والجذب المتذبذب منهك للطرفين في غير داعٍ، وينتهي في الغالب بانفجار يُقال فيه بالإساءة كل ما كان يمكنه قوله من البداية بالحسنى!
الإفصاح والمصارحة لا ينافيان الأدب والترفق في إيصال المقصود، والأدب والترفق لا يعنيان المخادعة والتلبيس
9) كل قلب مسؤولية صاحبه بالأساس مهما كان للآخرين قدر من المسؤولية تجاهه ، ولا أحد -مهما واساك أو سايرك حيناً- يمكنه حمل عبء قلبك إذا ضقتَ أنت عنه.
10) ومعيار التأثم في العلاقات -كما في غيرها- ما عرّفه لنا نبينا المصطفى - عليه السلام: "ما حاك في النفس وتردد في الصدر وكرهت اطلاع الناس عليه"، فرَبُّ الناس أولى بالخشية والتقوى وهو مطّلع بالفعل على ما يستخفي به أطراف علاقة، سواء كانت علاقة مشروعة مخفاة لسبب ما، أو علاقة غير مشروعة أصلاً.
11) هذا ومِلاك كل خير وسَوَاءٍ في العلاقات:
- احترام النفس واتخاذ حدود لها، لا تتنازل عنها في حقها، ولا تَسفُل دونها في حقّ غيرها.
- صدق مواجهة النفس بنواياها فيما تفعل أو لا تفعل.
- مراعاة حدود المقام وأدب الخطاب.
- استحضار عِظَم المسؤولية عن غواية النفس وإغواء الغير.
- وإجلال نظر الله تعالى لكل ذلك.