تزايدت في السنوات الأخيرة منظومة الأزمات والمشكلات التي تواجهها البلدان العربية والإسلامية. كثيرٌ منها نتيجة سياسات الفساد المنظَّم وهياكل الاستبداد الحاكمة، وكثيرٌ منها أيضاً نتيجة خطط المُستَعمِر القديم؛ لإضعاف وتقسيم بلداننا العربية والمسلمة، والاستمرار في الحفاظ على حالة تبعيتها، واستغلال ثرواتها، وتوجيه مواقفها السياسية لما يحقق مصالح قوى الاستكبار والاستعمار العالمية.
تزامن ذلك مع حالة من التصادم لم تعرفها من قبل الحالة السياسية والاجتماعية في الدولة الوطنية (القُطْرِيَّة) العربية والإسلامية مع الحركات الإسلامية وتنظيمات ما يُعرَف بالإسلام السياسي. صِدَام امتزج بالدم، وراح ضحيته مئات الآلاف من القتلى، وعشرات الملايين من المشرَّدين واللاجئين.
ووصلت هذه الصِّدامات إلى حدِّ الحرب الأهلية، كما في حالة أفغانستان منذ خروج الاحتلال السوفييتي منها عام 1989م، أو الجزائر في العشرية السوداء، في التسعينيات، أو في سوريا ما بعد 2011م، فيما تفككت بلدانٌ أخرى مثل اليمن وليبيا بعد أحداث ما يُعرَف بالربيع العربي.
ولا يمكن بحال فصل المجموعتَيْن الرئيستَيْن من الأزمات والمشكلات؛ فهما تمتزجان في كثير من الأركان والجوانب، مع اشتراكهما في الأسباب التي دفعت الشعوب العربية - في كثيرٍ من بلداننا - إلى الثورة على حكوماتها في العام 2011م، بعد سنوات من الاضطرابات، وعلى رأسها ازدياد الفقر وتفاقُم ظاهرة مجتمع النصف بالمائة التي ترتبط بالكثير من الظواهر الأخرى المهمة، مثل الفساد الإداري والسياسي، وظاهرة تزاوج المال والسلطة، وغير ذلك.
فهذه الظواهر هي التي أضعفت مناعة الدولة القومية (القُطْرِيَّة) العربية، وسمحت للخارج بالتدخُّل في شؤونها، ودفعت كذلك إلى الاضطرابات الاجتماعية التي رأيناها ولا نزال نراها في بلداننا العربية على وجه الخصوص.
وكانت الحركة الإسلامية -بشكل عام- في قلب الحدث الاحتجاجي والمعارِض، منذ التسعينيات.
وأدارت الحركة الإسلامية -أيّاً كانت هويتها الفكرية أو لونها التنظيمي- حراكها السياسي والاجتماعي العام من خلال نقطة شديدة الأهمية والمركزية في القضية التي نحن بصددها في هذا الموضع من الحديث، وهي الاشتباك مع قضايا المواطنين والأوطان التي تنتمي إليها، والإعلاء من شأن خطاب المصلحة العامة.
أدارت الحركة الإسلامية حراكها السياسي والاجتماعي العام من خلال نقطة شديدة الأهمية والمركزية وهي الاشتباك مع قضايا المواطنين والأوطان التي تنتمي إليها، والإعلاء من شأن خطاب المصلحة العامة
وليس من قبيل المبالغة القول إن قدرة الحركات الإسلامية في المجال التنظيمي، وكذلك نشاطها العام في مختلف الاتجاهات السياسية والاجتماعية، مع خطابها الديني، قد جعلها بديلاً للحكم للأنظمة والحكومات الموجودة في غالب البلدان العربية والإسلامية .
وكان الخطاب العاطفي الوطني في صميم المجال الإعلامي للحركات الإسلامية في مخاطبة الجماهير، مؤيِّدَةٍ إياه -أي مؤيِّدةً هذا الخطاب- بالفعل على الأرض. بمعنى أنه عندما يتكلم الإخوان المسلمون في مصر أو الأردن أو في المغرب عن مشكلات الأوطان والمواطنين، وأن الجماعة تسعى إلى تغيير الأوضاع من أجل إصلاح حال الوطن -أيّاً كان البلد الذي تنشط فيه- فإن الجماعة كانت تدعم خطابها هذا بالعمل العام، سياسيّاً واجتماعيّاً.
فنراها - ونرى غيرها من الجماعات ذات الخطاب أو المنطلق الديني - الأكثر نشاطاً في المناطق الأكثر فقراً، ونجدها في مقدمة صفوف المظاهرات التي كانت تندلع ضد الفساد أو الفقر في هذا البلد أو ذاك.
وبشكل عام، فإن خطاب المصلحة العامة كان هو الواجهة المعلنة في المجال الإعلامي لدى الحركات الإسلامية، والمحرِّك الرئيس لنشاطها في المجال العام في السنوات التي سبقت احتجاجات الربيع العربي .
ثم وقعت "الصِّدَامات" الحالية -التي نراها بين الكثير من الحركات الإسلامية وبين الحكومات والأنظمة- ووصلت إلى مرحلة من الإقصاء فقد باتت المعركة من قبيل المعارك الصفرية، أي إما نحن أو هُم، من دون أية إمكانية للالتقاء في مناطق مشتركة أو على حلول وسط.
ونصل هنا إلى صُلْبِ الحديث، وهو كيف تعاملت هذه الحركات -أو بمعنىً أدق، مجموعات من الصَّفِّ- مع قضية المصلحة العامة بعد وقوع الشقاق الكبير، وحالة التشتت التي عرفها الآلاف من أبناء الصَّفِّ الحركي.
نجد في هذا الإطار، خطأ فادحاً -يكاد يصل إلى مستوى الجريمة من جانب الكثير من الصف الحركي- بات عنواناً على الحركات الإسلامية ذاتها -ولو لم يكن هذا هو الموقف الرسمي من هذه الحركات والجماعات- وهو الانفصال الكامل عن مصلحة الأمة وقضاياها وملفاتها المهمة، بل وتبني موقف يُصنَّف عدائيّاً من مصالح الدول التي ينتمون إليها.
فقد حدث خلطٌ كبير بين قضية الصراع مع الأنظمة والحكومات والتي ناصبت الحركة الإسلامية العداء وحاربتها، وبين قضايا الأوطان، بشكل مثَّل خصماً كبيراً من رصيد الحركة عند بعض الجماهير، وساند الرسالة الدعائية للأنظمة والحكومات من أن هذه الحركات والجماعات، هي بالفعل كيانات هدَّامة تناصب الأوطان العداء، ولا تؤمن من الأصل بفكرة الوطن والانتماء إليه.
حدث خلطٌ كبير بين قضية الصراع مع الأنظمة والحكومات والتي ناصبت الحركة الإسلامية العداء وحاربتها، وبين قضايا الأوطان، بشكل مثَّل خصماً كبيراً من رصيد الحركة عند بعض الجماهير
بل الأعمق من ذلك، أن مهَّد ذلك للبعض لاتهام الحركات الإسلامية بالنفاق فيما كانت تدَّعيه في سنوات الهدوء واقتصار الخصام بين الحركة الإسلامية وبين الحكومات والأنظمة الحاكمة على الإطار السياسي والعمل في المساحات النقابية والقضائية، وفي الشارع والإعلام، نقول فيما كانت ترفعه الحركات والجماعات الإسلامية من شعارات حول الوطن وتبنِّيها لقضاياه ومشكلاته، والقول بأن ذلك كان مجرَّد ستار للوصول إلى الحكم من دون اهتمام حقيقي وأصيل من جانب الحركات الإسلامية بهذه القضايا والمشكلات.
وبالرغم من أن الغبشة الإعلامية والسياسية قد خلطت بين مواقف بعض الصَّفِّ الحركي وبين الموقف الرسمي الفعلي للحركات والجماعات الإسلامية نفسها، مثل جماعة "الإخوان المسلمون" و"تيار حازمون" في مصر مثلاً، إلا أن هذا لا يعفي هذه الحركة أو تلك، أو هذا التيار أو ذاك من المسؤولية؛ فالجانب الإعلامي من نشاط المركز فيها الذي يمثلها أمام الناس والإعلام -والذي هو مسؤول عن القرار فيها- لم يكن على مستوى الحدث في توضيح هذا الفارق، وأن الجماعة أو التيار غير مسؤولَيْن عن مواقف الصَّفِّ الحركي الذي لا يمثلها.
والوضع فيما يخص مصر وقضاياها هو أوضح ما يكون، فهي أكبر بلد عربي، والتغيير فيها مركزي في نقطة التغيير في المنطقة بالكامل.
ونأتي بمثالين حاصلٌ فيهما هذه الخطيئة التي أشرنا إليها، وهما قضية سد النهضة، والتدخل التركي في ليبيا.
ففيما يتعلق بسند النهضة، فهناك منصَّات وشخصيات لا لبس في أنها تنتمي إلى الإخوان المسلمين والتيار الموالي للدكتور حازم صلاح أبو إسماعيل، تساند الموقف الإثيوبي بالمعنى الحرفي للكلمة في أزمة سد النهضة، بشكل يخرج عن نطاق المناورة المقبولة في السياسة، أو الخصومة مع الحكومة المصرية أو النظام في مصر، فأزمة سد النهضة لا تعني النظام المصري فحسب، وإنما هي قضية حياة أو موت للشعب المصري ولمصر، في تناقض كامل مع خطاب الانحياز للمصلحة العامة القديم.
فمن الممكن أن تنتقد تقصير الدولة المصرية، أو تنتقد رخاوة وتفريط النظام كما تراه، لكن لا تدعم إثيوبيا في موقفها السياسي، بل وفي التهديدات العسكرية التي جاءت على لسان مسؤوليها.
علماً أن الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي -رحمه الله- من المعروف أنه كان له موقف مختلف تماماً في هذا الملف، سد النهضة، مثلما قال إن "دماءنا هي البديل" هذا هو الرئيس الذي أتى من جماعة الإخوان المسلمين، وانتخبه الناس في أعقاب ثورة يناير 2011م، فكان أولى بهؤلاء التفكير بهذا المنطق. أن مصر أمرٌ مختلف، وأكبر بكثير من خلافات مع الحكومة والنظام الحاكم فيها.
وهذا نقف عليه كذلك في نقطة التدخُّل التركي في ليبيا، فقد وقع الكثيرون في هذا الخلط، بل ووقعوا في الخطيئة الأكبر، وهي وضع التدخل التركي السياسي والعسكري في ليبيا في إطار قيم كثيرة، دينية وسياسية، بل بلغ بالبعض الهزل إلى وصف النجاحات العسكرية الأخيرة لقوات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليّاً ضد قوات المشير خليفة حفتر، بـ"الفتح"، هكذا، على إطلاق المصطلح، بينما أصغر دارسٍ للعلوم الشرعية يعلم أن هذا المصطلح لا ينطبق سوى على حدٍ واحد، وهو فتح مكة.
وهنا ثمَّة أمر ينبغي إدراكه لتأكيد الواقع عليه، وهو أنه ولو كانت حكومة الوفاق الليبية هي الواجهة المعبِّرة عن الثورة الليبية، فإن الأصل في الدين والسياسة والاجتماع، عدم المبالغة في توصيف أمر معين، كي لا ينتكس الناس إن حصل شيءٌ آخر، وعدم ربط القيمة بدول وحكومات مواقفها – بالتأكيد – متغيرة بتغيُّر الظروف والأحوال.
نفس المشكل حصل في معارك حلب، التي صورها البعض، ومنهم للأسف بعض علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أنها ضمن حروب آخر الزمان، من أجل أهداف سياسية بحتة، فكانت النتيجة، إما انفلات الآلاف من الصَّفِّ الحركي من المشروع والتديُّن بالكامل، أو الاتجاه إلى الجماعات الإرهابية المسلحة التي لا نعلم أي شيء عن نشأتها ولا أهدافها الحقيقية، وآذت أكثر ما نفعت، مثل "داعش".
وربما هنا لتأكيد عدم انبتات مسؤولية الإطار الرسمي المركزي لبعض الحركات الإسلامية عن مشكلة هذا الخلط الذهني بين مواقف الصَّف والمنصات التابعة والمحسوبة عليها، وبين الموقف الرسمي لهذه الجماعات.
إن هذا الوضع يتطلب الكثير من الجهد الإعلامي والتنظيمي. الإعلامي في اتجاه إصدار المزيد من البيانات – الغائبة بشكل لافت بالفعل للنظر – التي توضِّح حقيقة موقف الإطار الرسمي لهذه الحركة أو لذاك التيار مما يجري ، وتنظيمي يضبط تصريحات وتدوينات الصَّف الحركي والمنصَّات المختلفة التي لا يمكن بحال من الأحوال بعد سنوات من أخذها صفة التمثيلية، القول بأنها لا تعبِّر عن الموقف الرسمي للجماعة أو الحركة أو التيار، واتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لفصل المواقف عن بعضها البعض.إن ما يجري لا يراعي في أبسط صوره قواعد العمل السياسي الصحيح، ولا يضع في اعتباره أن هناك احتمالاً بتبدُّل الأحوال في هذا البلد أو ذاك، يمكن معه العودة إلى المجال السياسي والاجتماعي. وقتها سوف يكون وقت دفع الثمن الحقيقي لهذه الفوضى الحاصلة بسبب غياب الرؤية عن كثيرين!