من بين المفردات التي لفتت الانتباه إليها على منصات التواصل الاجتماعي في وصف جائحة وباء كوفيد_19 التي تمر بها الإنسانية كافة في هذه الفترة، مفردة "عام الكورونا"، والتي اصطكها كاتب وتربوي فلسطيني، هو سليمان أبو عودة.
التشبيه قادم من "عام الرمادة" الذي عانى منه مسلمو شبه الجزيرة العربية خلال عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللهُ عنه- من واحدةٍ من أسوأ المجاعات في التاريخ.
وفي الحقيقة، فإن الأمر أقرب ما يكون بالفعل إلى عام رمادة كبير عمَّ العالم بأسره، ولئن كان وقت "عام الرمادة" الحقيقي، كان مسلمو وعرب شبه الجزيرة في حينه على بيِّنةٍ من أنه سوف ينحسر وينتهي بحلول موسم الأمطار الجديد، فإن الإنسانية الآن تعيش عام رمادة لا تعرف كيف ينتهي، ولا متى ينتهي.
ولكن... ما الذي قادنا إلى ما نحن فيه الآن؟ هل هو الفيروس الغامض الذي يجتاح العالم، ويصيب ويقتل الناس، أم أنها – في جذر الأمر حقيقةً – الظروف التي تحياها الإنسانية، وصدمها فيها قطار الفيروس؟
المنطق العام للأمور، بل إن العلم التجريبي الصارم أيضاً، يقولان بأن المرض في حد ذاته ليس هو المشكلة، فالإنسان إذا ما كانت مناعته قوية، يستطيع أن يواجه نفس المرض الذي قد يقتل آخر ذا مناعةٍ ضعيفة.
وفي حال "عام الرمادة"، فإن المجاعة لم تكن تحدث لو أن الناس كانوا قد ادخروا من حبوبهم ومحاصيلهم ما يقيهم شرَّ الفاقة طيلة ذلك العام، كما فعل المصريون وقت نبي اللهِ يوسف -عليه السلام- فقد واجهوا سبع سنوات عجافٍ بما ادخروا في سُنْبُلِه كما أخبرنا القرآن الكريم في السورة التي تحمل اسم نبي اللهِ.
وبالتالي، فإن الإشكال الرئيسي ليس في المرض، وإنما في الظروف التي تواجه الإنسان أو المجتمع في حال حدوث أزمة أو جائحة أو ما شابه .
وعندما نتكلم كذلك عن "عام الكورونا"، فإنه ليس الأهم هو الإصابات والوفيات –على احترامنا للنفس الإنسانية التي قدَّسها الإسلام– ففي النهاية لن تزيد الأرقام المتعلقة بالإصابات والوفيات كثيراً عن الأرقام السنوية لأزمات ومشكلات مزمنة، مثل حوادث الطرق والملاريا والسرطان والمجاعات والهجرة غير المشروعة، وإنما الأهم في هذه التضاعيف هو الأثر الاجتماعي والاقتصادي، وهو العمق الحقيقي للأزمة التي قادنا إليها فيروس كورونا المستجد.
ومن ثَمَّ، فإنه مع أهمية البحوث المبذولة في المجال الطبي والجهود المبذولة في القطاع الصحي، فإنه من الأهمية بمكان أن تعمل الإنسانية على البحث في الأسباب التي قادت إلى التضاعيف الاقتصادية والاجتماعية للجائحة.
ونقف هنا عند حقيقة مهمة، وهي أن الإطار العام الذي ضربتنا فيه هذه الآثار والتضاعيف، إنما هو إطار الرأسمالية التي تحكم المنظومة الاقتصادية، وبالتبعية الاجتماعية، على مستوى العالم، والتي هي نبتٌ غربي بدأ في الهيمنة على عالمنا منذ أن بدأت حركة الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر الميلادي، والتي كانت الأساس الذي كوَّن نظرية "دعه يعمل... دعه يمر" الشهيرة، ونظريات آدم سميث الخاصة بحركة رأس المال، والتي سادت العالم بالمعنى الحرفي للكلمة منذ القرن الثامن عشر الميلادي.
فحركة الكشوف الجغرافية نهضت في الأصل للبحث عن موارد خام جديدة، وفتح أسواق جديدة، وتطوير طرق الملاحة العالمية لخدمة حركة التجارة من وإلى أوروبا، ثم الأمريكيتَيْن، مع باقي أنحاء العالم.
وبلغت سطوة هذه المنظومة أنه حتى البلدان التي تتبنى منظومات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة، تنهض على أسس من الاعتزاز القومي، والمُكَوِّن الحضاري الأقدم، مثل الصين وروسيا واليابان والهند، لم تستطع استكمال جوانب سطوتها الدولية إلا من خلال الانخراط في منظومة الرأسمالية العالمية، في صورة اتفاقيات وعضوية مؤسسات، أهمها صندوق النقد والبنك الدوليَّيْن ومنظمة التجارة العالمية.
وكما نرى من حولنا، فإن الرأسمالية ليست وحشاً اقتصاديّاً فحسب، وإنما هي منظومة من القيم والسلوكيات التي شكَّلت العالم وتغيِّر فيه باستمرار وفق منظومة القيم الغربية في المجال الثقافي والاجتماعي ، وهي أهم منظوماتنا؛ لأن باقي المنظومات الأخرى، الاقتصادية والسياسية، إنما هي لخدمة هذا المجال: مجتمعاتنا، بهويتها وأفكارها ومنظوماتها الحياتية اليومية والعامة.
والرأسمالية بحر هادر، اجتاح أعتى حصون الخصوصية، وفرض نفسه عليها، كما في الصين، التي هي أمة ذات هوية راسخة، وحصَّنتها الطبيعة بحصونها من مختلف الجهات كما تخبرنا خرائط الجغرافيا السياسية والطبيعية عنها.
ولننظر فقط إلى عامل شكَّلته الرأسمالية، وجعلته مرتكزاً أساسيّاً -ليس في المجال الاقتصادي فحسب، وإنما أمراً متجذِّراً ومتحكِّماً في كل شيء في مجتمعاتنا- وهو عامل الربحية الذي بات يجُبُّ كل ما عداه من قيمٍ، وفوق كل مسعىً آخر من مساعي الإنسان في الحياة.
من المعلوم لكل قارئ متوسط الثقافة العامة أيضاً -وليس للمتخصصين فحسب- أن أسوأ كوابيس العالم في زمننا المعاصِر في المجال الطبي والعام، هو تكرار جائحة الأنفلونزا الإسبانية التي ضربت العالم بين العامَيْن 1918م و1919م، وأدت إلى وفاة ما بين 40 إلى 50 مليوناً من البشر وفق تقديرات سابقة، وارتفع هذا الرقم إلى نحو مائة مليون وفق تقديرات أكثر دقة تمت في العقدَيْن الماضيَيْن.
ولم ينجُ بلدٌ منها وقتئذٍ، وكانت بنفس ظروف وباء كوفيد-19 الحالي، سواء في طبيعة الفيروس وأثره –أحد فيروسات الأنفلونزا ولكنه يضرب كذلك الجهاز المناعي– أو فيما يتعلق بمعدلات الانتشار.
أي أن الكارثة كانت متوقَّعة، مع اختلاف ظروف الانتشار؛ فنحن لا نحيا الآن في عالم الحرب العالمية الأولى، كما أن عناصر النظافة الشخصية والوعي المجتمعي والتقدم الطبي، كلها عوامل حالت دون تكرار الكارثة بذات حجمها الإحصائي.
ولكن... كيف تصرفت شركات الأدوية العالمية؟ تعد البحوث الطبية من بين أهم أنشطة شركات الأدوية، والتي تهيمن على سوق هو الأضخم في حجمه بعد سوق تجارة السلاح، وتفوق المخدرات وتهريب الآثار والجاسوسية العلمية، بل إن الأخيرة جزءٌ مهمٌّ من أنشطتها يتم في حقول البحوث الطبية وصناعة الأدوية.
وفي ظل ما تحققه هذه الشركات من أرباح، وغالبيتها في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، والتي هي رأس حربة المنظومة الرأسمالية العالمية، وهي مبتدعتها في الأصل، فإنها تحرَّكت في أبحاثها، وفي إنتاج الدواء، بخلاف المطلوب؛ فقد توجَّهت إلى المجالات الأكثر ربحية.
وقد ذكرت صحيفة "الجارديان" البريطانية، أن كبرى شركات الأدوية في العالم، وعددها 20 شركة، رفضت اقتراحَاً قبل سنوات لتسريع إنتاج لقاحات مشابهة لما هو مطلوب لمجابهة عائلة فيروسات "كورونا"؛ لأنها أقل ربحية من الخاصة بالحالات الطبية المزمنة، وأنها –أي هذه الشركات- عمِلَت على نحو 400 مشروع بحثي جديد في العام 2019م، الماضي تركز نصفها على علاجات لأمراض السرطان ["الأنباء" الكويتية ومصادر أخرى – 25 مايو 2020م].
وذكرت الصحيفة أيضاً أن هذه الشركات رفضت اقتراحاً من الاتحاد الأوروبي من خلال "مبادرة الأدوية المبتكرة" (IMI) وهي شراكة بين القطاعين العام والخاص تتمثل مهمتها في دعم أحدث الأبحاث في أوروبا، قبل ثلاث سنوات، من أجل العمل على تسريع إنتاج لقاحات لأمراض مشابهة لفيروس كورونا المُستجد للسماح بتطويرها قبل حدوث تفشٍّ لأحد تلك الأمراض، كما حدث اليوم مع كوفيد_19.
وهذا مظهر واحد، مظهر آخر من مظاهر أثر تكريس الرأسمالية لمفهوم الربح على كل ما عداه من أمور، قضية العمل.
من المعروف أن العمل هو أحد عناصر أو عوامل الإنتاج الأربعة وفق النظرية الرأسمالية، بجانب عناصر المواد الخام والتنظيم (الإدارة) والأرض.
ونحن نرى في حياتنا - وبالذات في المجتمعات الفقيرة - كيف تحول مجال العمل إلى مجال للعبودية والسخرة المقنَّعة، حيث يتم استهلاك جهد الإنسان وصحته، بل وعمره ذاته، نظير أجرٍ ضئيل، ومن دون أبسط قواعد التأمين الاجتماعي والصحي، وإن حدث، فهو في أضيق الحدود.
وبالتالي، عندما فاجأت المجتمعات الإنسانية جائحة من هذا النوع، فرضت إجراءات صارمة من العزل والتباعد الاجتماعي، لم يكن مئات الملايين على أي قدرٍ من الاستعداد لهذه الظروف، بمدخرات أو ما شابه.
جانب آخر من وحشية الرأسمالية في هذا الجانب، هو الضغط على العامل الواحد لكي يؤدي مهام عاملَيْن أو ثلاثة، أو توظيف الآلة محل الإنسان، وبالتالي، زادت البطالة بصورة كبيرة، فحدث ذات الأثر السابق بالنسبة لمئات الملايين من العاطلين عن العمل أو أصحاب العمالة اليومية، أو "الأرزُقِيَّة" بلُغة أهل مصر.
إننا في واقع الأمر، لا نواجه جائحة في المجال الصحي، وإنما فوجئنا بأننا أمام جائحة أخلاقية ، واللافت في ذلك أن العامل الوحيد الذي منع تحوُّل هذه الآثار إلى كوارث أكبر، هو عنصر التكافل الاجتماعي، وكما نعلم، فإن الإسلام سبق بها المنظومات الأخرى، بصورة شديدة التقدمية، حيث تتضمن منظومة التكافل الاجتماعي في الإسلام: تشريعات واضحة، جعلته من أركان الإسلام ذاتها؛ لأن فيها –المنظومة التكافلية– الزكاة نفسها، بجانب منظومة الصدقات، والتي منها ما هو موسمي منتظم، مثل زكاة الفطر، أو الصدقات بشكل عام.
تعضيد الروابط المجتمعية، والتي هي في الإسلام ضمن منظومة الفرائض وليس المُستحبَّات فحسب، مثل صِلَة الأرحام، وجعْل التكافل الاجتماعي أحد أهم أدوات ذلك.
التشجيع بشتَّى الصور على العطاء، واعتباره تجارةً مع اللهِ تعالى، وأحد أبواب الثواب العظيم في الدنيا والآخرة.
أتت دولة النبوة والخلافة الراشدة، والتي سار عليها بعد ذلك سائر الدول المسلمة، بمنظومة مؤسسية واضحة لذلك، مثل باب توزيع الغنائم، و"بيت المال"، والذي كانت مخصصاته تخرج للمسلم وغير المسلم من رعية الدولة الإسلامية.
ومع كونها منظومة عقدية وأخلاقية ومؤسسية متكاملة، فقد تكرَّس التكافل الاجتماعي كثقافة، بل وفريضة مجتمعية، مع أنك لا تستطيع أن تقول لجارك الفقير الذي يطلب منك المعونة "لا"، بل تبادر أنت إليه.
وحتى عندما طوَّرت الرأسمالية نفسها لتفادي الانهيار أمام الثورات العمالية والاضطرابات الاجتماعية والتي كانت قد بدأت تظهر في روسيا وإنجلترا في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وظهر مذهب "الرأسمالية المجتمعية"، فإنها ما أتت إلا بمنظومة مشابهة لمنظومة التكافل الاجتماعي التي أبدع فيها الإسلام ونظَّمها بشكل مفصَّل لم تسبقه إليه أمة أو نظرية أخرى بذات الصورة.
وفي الأخير، فإننا – كبشرٍ - بحاجة إلى مراجعة أنفسنا ومنظوماتنا القيمية والأخلاقية، قبل أن نتكلم عن بحوث اللقاح والمصل، والتجارب السريرية على علاجات الكورونا المُسْتَجَد!