تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:
• مدى انتشار وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي الموازي.
• كما تحدثنا عن بعض مظاهر التسيب والانفلات على منصات التواصل الاجتماعي.
• وكذلك تحدثنا عن أسباب التسيب والانفلات على منصات التواصل الاجتماعي.
وفي هذه الحلقة سنتحدث - بفضل الله تعالى - عن:
ثالثاً/ الإسلام وغرس العفة في نفوس المسلمين
إن الإسلام لم يترك باباً يُفضي إلى مثل هذه الفواحش -وإن شئت قل المهازل- إلا أوصده فلا تجد مثل هذه الفواحش والمهازل إلى قلب المسلم سبيلاً.
لقد ربى الإسلام أتباعه على العفاف وتنزيه النفس وضبطُها عن الانسياق وراءَ الشهوات، والكفُّ عن المُحرماتِ.
إن الإسلام عندما حرَّم الزنا حرَّم كذلك كل مقدماته وكل السبل المفضية إليه من سمع وبصر وكلام واختلاط وتبرج... إلخ.قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33]
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "كُتِبَ علَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذلكَ لا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُما النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا البَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذلكَ الفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ" (صحيح مسلم).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ، فإنَّه له وِجَاءٌ" (صحيح مسلم).
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "لكلِّ دينٍ خُلقٌ وخلقُ الإسلامِ الحياءُ، من لا حياءَ له لا دينَ له" (التمهيد بإسناد حسن).
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "الحياءُ والعِيُّ (أي قلة الكلام) شعبتانِ منَ الإيمانِ، والبذاءُ والبيانُ (يعني الاسترسال في الكلام دون فائدة، ومجاراة الغير فيما يُغضب الله تعالى) شعبتانِ منَ النِّفاقِ" (سنن الترمذي).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ كان يدعو بهذا الدُّعاءِ: "اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ الهُدَى والتُّقى والعفافَ والغِنى" (صحيح ابن حبان).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "عِفُّوا عنِ نساءِ الناسِ تعِفَّ نساؤُكم..." (رواه الحاكم في المستدرك).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "مَن خبَّب عبداً (أي خدعه وأفسده، أو غرَّر به) على أهلِه فليس منَّا ومَن أفسَد امرأةً على زوجِها فليس منَّا" (صحيح ابن حبان).
إن هذا المنهج الرباني المتكامل - الذي وضعه الله تعالى لعباده، وهو بهم أعلم، وربَّى عليه النبي ﷺ أصحابه، وهو لا ينطق عن الهوى خرَّج لنا جيلاً فريداً يُقتدى به إلى يوم أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
خرَّج لنا عثمان الذي تستحيي منه الملائكة.
وخرَّج لنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- التي كانت تستحيي من الفاروق عمر بعد موته، وتقول: "كنتُ أدخُلُ بَيتي الذي دُفِنَ فيه رَسولُ اللهِ ﷺ وأَبي، فأضَعُ ثَوْبي، وأقولُ: إنَّما هو زَوْجي وأبي، فلمَّا دُفِنَ عُمَرُ معهم، فواللهِ ما دخَلتُهُ إلَّا وأنا مَشدودةٌ علَيَّ ثيابي؛ حَياءً مِن عُمَرَ" (مجمع الزوائد للهيثمي).
وخرَّج لنا السيدة فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- التي كانت تستحيي أن إذا ماتت يضعونها على نعش وعليها ثوب يصف جسدها، وما استراحت حتى صنعت لها السيدة أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- هودجاً من الجريد تُحمل بداخله.
وخرَّج لنا السيدة هِندُ بنتُ عُتْبةَ -رضي الله عنها- التي تتعجب من قول النبي - ﷺ - في بيعة النساء "ولا يزنينَ"، فقالت: "أوَتزني الحُرَّةُ!"؛ غير متخيلة أن هناك امرأة حُرة تزني ولو كانت على غير دين الإسلام.
وخرَّج لنا أمثلة كثيرة في هذا الجانب لا تُحصى ولا تُعد، أمثلة يهون عليها أن يُراق دمها ولا يُراق ما وجهها، عفة وحياء واستحياء من الله تعالى.
رابعاً/ الإسلام والتشجيع على الالتزام بالعفة
إن الإسلام يربي أتباعه بالترغيب والترهيب والثواب والعقاب، ولذلك نجد أن هناك الكثير من الآيات والأحاديث التي تحث على خلق العفة وترغب فيه، منها:
1. جعل الله تعالى من صفات من يرثون الفردوس الأعلى من الجنة {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]
2. ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، فقالَ: إنِّي أخافُ اللَّهَ" (صحيح مسلم).
3. وجاء في الحديث الشريف: "النظرةُ سَهمٌ مَسمومٌ مِنْ سهامِ إبليسَ مَنْ تركَها مِنْ مخافةِ اللهِ أعطاهُ اللهُ إيماناً يَجدُ حلاوتَهُ في قلبِهِ" (رواه الحاكم والطبراني).
4. ولقد كان من أسباب انفراج الصخرة عن الثلاثة الذين حُبِسوا في الغار أن كان من بينهم رجل عف عن أن يأتي بالفاحشة مع ابنة عمه -وهي أحب النساء إلى قلبه- مخافة الله.
5. ومن الأمور التي رفع الله تعالى بها شأن نبيه يوسف -عليه السلام- هو عفته وترفعه عن الاستجابة لمراودة امرأة العزيز له عن نفسها.
خامساً/ الإسلام وسد الذرائع التي تخرق المروءة وتهتك العفة
لقد جاءَ الإسلام بكلِّ ما يصون سياجَ المروءة ويحفظ ثياب العفة، وحرَّم كلَّ ما يهتِكه ويُفسِده ، فحرَّم التبرج والسفور، وحرَّم أن تخضع النساء بالقول، ووضع ضوابط للاختلاطِ، وآداباً للتعامل بين المحارم، وحرَّم على المرأة أن تسافر بدون مَحرم؛ كل ذلك لأن الشهوة بحر مُغرق، وشهاب مُحْرِق.وقد تعامل الإسلام مع جانب العفاف بحكمة بالغة وحُجة قوية دامغة، وما ينبغي الالتزام به في الواقع، لا ينبغي التهاون به في العالم الافتراضي الموازي.
فالشاب الذي جاء لمجلس النبي ﷺ يستأذنه في الزنا، خرج من مجلسه وليس هناك شيء أبغض إلى قلبه من الزنا، وذلك بعد أن استمع له النبي ﷺ وخاطب فيه مروءته، وأحيا ضميره، وأشعل جذوة الإيمان في قلبه، ثم وضع يدَه الشريفة على صدرِ الشاب وقال: "اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه".
إن المسلم الذي يخشى الله ويتقيه لا بد وأن يكون أشد الناس حرصاً وأكثرهم حزماً في كل ما يخص العالم الافتراضي الموازي؛ لأنه لن يُسأل عن نفسه فحسب، بل سيُسأل عن نفسه وأهله.
إن المسلم الذي يخشى الله ويتقيه لا بد وأن يكون أشد الناس حرصاً وأكثرهم حزماً في كل ما يخص العالم الافتراضي الموازي؛ لأنه لن يُسأل عن نفسه فحسب، بل سيُسأل عن نفسه وأهله
سادساً/ الأسلوب الأمثل للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي
إن لكل واحد منا -أو لمعظمنا- آلاف من الأصدقاء في العالم الافتراضي، وكلهم من بيئات وثقافات وأنماط شخصية مختلفة، ولكي نأخذ بأسباب الوقاية من زلات هذا العالم الافتراضي الواسع الجنبات المترامي الأطراف المتعدد الأغراض، لابد علينا أن نضع في الاعتبار النقاط التالية:
1. إدراك أن العالم الافتراضي مثله مثل العالم الواقعي الحقيقي يضم بداخله شبيه يوسف في عفته وشبيهة مريم في طهرها، كما يضم من هم أخبث من الشياطين ومن هن أشد لعنة من صاحبات الرايات الحُمر في الجاهلية.
وطالما أن الأمر كذلك فإن الأمر يتطلب من كل من يخشى الله ويتقيه الحذر كل الحذر، والمؤمن كيس فطن.
2. التسلح بالأخلاقيات والقيم التي تعيننا على ألا نتلوث بفساده ولا نخوض في وحله ولا ننخدع بحيله.
3. أسرارك وعلاقاتك ومناسباتك وأفراحك وأتراحك لا تنشر منها على طاولة العالم الافتراضي سوى ما فيه فائدة أو عِبرة للآخرين، وبنية الثواب والنفع العام.
أسرارك وعلاقاتك ومناسباتك وأفراحك وأتراحك لا تنشر منها على طاولة العالم الافتراضي سوى ما فيه فائدة أو عِبرة للآخرين، وبنية الثواب والنفع العام
4. أحسِن استغلال نعم الله ولكن احذر أن تكون عفوياً، ولا مُفرِّطاً في منح ثقتك للآخرين بحجة حُسن النية وطِيب النفس وسلامة الصدر؛ فالإنسان العفوي الساذج لا مكان له في العالم الافتراضي.
5. لا تنخدع بمعسول الكلام ولا كثرة مدح وإطراء من أحد، فإن كان ذلك يرضي غرور البعض أو يجبر نقصاً نفسياً يواريه البعض عن أعين الناس إلا أن أحدهم قد لا يستيقظ إلا وقد انزلقت قدمه في أوحال العالم الافتراضي وأصبح في وسط بركة يتساوى فيها مواصلة السير مع اتخاذ قرار بالعودة.
6. تأكد من أن أهلك وذويك يستوعبون كل هذه التوصيات والآداب جيداً ولا تفرط في ثقتك بهم كي لا تندم ويندمون حين لا ينفع الندم.
وأخيراً أقول
إننا لسنا أعداء للتكنولوجيا، ولا دعاة ردة ولا تخلف، ولكننا دعاة للتمسك بالفضيلة والتحرز من أدران الرذيلة، فهل الابتذال والخضوع بالقول شرطاً من شروط عالم التكنولوجيا!
وإننا لسنا أعداء للتقدم بأي نوع من أنواعه ولكننا دعاة للتمسك بالثوابت والالتزام بالأصول وعدم التفريط في القيم، فالإنسان لم تتغير احتياجاته الأساسية ولا تكوينه البيولوجي منذ أن خلقه الله، فلماذا هذا الانتكاس الذي يسلب الإنسان فطرته التي فطره الله عليها!
اللهم كرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واحفظنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن