قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122}
تمهيد
إن الفقه الإسلامي هو النتيجة الواقعية للإيمان بالدين والتحرك به ، والأحكام الفقهية العملية يستنبطها العلماء من النصوص الدينية.(1)وتتمثل النصوص الدينية بآيات القرآن الكريم وبأحاديث السنة النبوية، وهذه النصوص الدينية بعضها قطعي الدلالة وبعضها ظني الدلالة، ولاستنباط الحكم الشرعي من هذه النصوص الدينية لا بد من توافر شروط معينة.
*ومن أهم شروط المجتهد الذي يستنبط الحكم الشرعي:(2)
• العلم بالعربية التي هي لغة النصوص
• العلم بالقرآن الكريم ناسخه ومنسوخه
• العلم بالسنة النبوية
• معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف
• معرفة القياس
• معرفة مقاصد الأحكام
• صحة الفهم وحسن التقدير، وصحة النية وسلامة الاعتقاد
السياق الزمني لظهور المذاهب الفقهية
في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن هناك حاجة ملحة للاجتهاد في استنباط الأحكام، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، اعتمد الصحابة على ذخيرتهم الفقهية، وطبقوا الأحكام بناء على ما رأوه في عصر الوحي، واجتهدوا في ما استجد في واقعهم من مسائل ومشاكل.
وعلى منهج الصحابة سار التابعون، ولم تكن هناك حاجة كبيرة للتحقق من الروايات الدينية، لأن الأحكام حاضرة في التطبيق العملي المشاهد المعلوم، ولأن احتمال الكذب صعب جدًّا في ظل وجود العدد الكبير من الصحابة والتابعين.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
ومع نهايات القرن الأول وبدايات القرن الثاني، والتوسع الكبير لبلاد المسلمين، والتنوع البشري الذي رافق هذا التوسع، مع الاحتكاك المباشر بالأمم الأخرى، برزت الحاجة ملحة إلى ضبط الموروث الفقهي من خلال التدوين والتأصيل، وتصدى لذلك الأئمة الكبار -وعلى رأسهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل- الذين كتبوا العلم ووضعوا القواعد، وأسسوا لمنهجية علمية استطاعوا من خلالها أن يضبطوا عملية استنباط الأحكام من النصوص الدينية.(3)
وسار على نهجهم العلماء المحققون والفقهاء المدققون، حتى استقرت الفتوى واتضحت المنهجية العلمية من خلال المذاهب الفقهية الأربعة التي ارتضتها الأمة وتلقاها الناس بالقبول.
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ" (مسند الشاميين للطبراني).
قال الإمام مالك: "إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تُسأل يوم القيامة، فانظر عمن تأخذه" وفي رواية: "إنّ هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" (مقدمة تحقيق الموطأ للأعظمي).
آثار الانضباط العلمي في الفقه الإسلامي
هذا الانضباط العلمي أسهم بشكل حاسم في دفع المسيرة الحضارية للأمة الإسلامية، بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي استقرار التشريع الإسلامي على مدى أكثر من عشرة قرون خلال الزمان، وكلما تغيرت الأحوال أو ظهرت مسائل جديدة، وجد الفقهاء الحلول من خلال مثال فقهي سابق، أو من خلال الاعتماد على الأصول العلمية المنضبطة ، وإذا ضاقت الأمور في مذهب فقهي، أفتى فقهاؤه بالمعتمد في مذهب فقهي آخر بكل أريحية واحترام.
وحتى في أصعب الظروف كان الفقه الإسلامي الركن الركين الذي تستند عليه الأمة وتستمد منه عافيتها من جديد، إلى أن ضعفت الكيانات السياسية للمسلمين، وبدأ الاستعمار يمد يده الخبيثة، وعرف أن الصرح الكبير الذي بناه الفقهاء لا يمكن هدمه إلا من الداخل، فدعم الأعداء المحتلون بعض الحركات التي تفلتت من المنهجية العلمية أو أرادت أن تتجاوزها تمامًا، واستطاعت هذه الحركات –بقصد أو بغير قصد– أن تزعزع إيمان الأمة بتراثها الفقهي، بينما لم تستطع أن تقف في وجه المد اللاديني الذي أخذ يجتاح الأمة من كل مكان، ولم تستطع أن تقدم الحلول لما يستجد من أحوال.
ومع كل ذلك فما زال الناس مسلمين، وما زال الفقه الإسلامي حيًّا، وما زالت مجاميع كبيرة من الأمة تعتقد أن الحل يكمن في دينها، وأن الإسلام هو العدل والحرية.
دعم الأعداء المحتلون بعض الحركات التي تفلتت من المنهجية العلمية أو أرادت أن تتجاوزها تمامًا، واستطاعت هذه الحركات –بقصد أو بغير قصد– أن تزعزع إيمان الأمة بتراثها الفقهي، بينما لم تستطع أن تقف في وجه المد اللاديني الذي أخذ يجتاح الأمة من كل مكان، ولم تستطع أن تقدم الحلول لما يستجد من أحوال
كيفية أخذ الفتوى الفقهية
بناءً على ما تقدم، يجب أن نفهم: أن الفقه الإسلامي مستقر بأصوله ومعظم فروعه منذ القرن الثاني الهجري، وأنه استطاع بمرونته أن يقدم الحلول العملية لما استجد خلال الزمان، وأن الفتوى تؤخذ من المذاهب الفقهية الأربعة على النحو التالي:
1 ـ الأحكام الفقهية المنضبطة المستقرة نأخذها كما هي، مثل: العبادات، والأحوال الشخصية، والعقوبات، مع مراعاة أصول تطبيقها، ومهمة الفقيه هنا: هي نقل الفتوى المعتمدة في المذهب.
2 ـ الأحكام التي بنيت على الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يمكن للفقهاء أن يعيدوا دراستها وقراءتها من جديد بناء على التغيرات الحاصلة وليس الافتراضات المتوقعة، مثل: المعاملات المالية، والعلاقات الدولية، وهذا يحتاج إلى مجامع فقهية مستقلة عن السلطة السياسية.
3 ـ المسائل الجديدة التي لم ينص الفقهاء على أحكامها، فإما أن يقيسها الفقهاء على مثال سابق، أو أن يجتهدوا بناء على الأصول المستقرة في المذاهب، مثل: القوانين المدنية، والتجارب الطبية والعلمية.
_____________________________
الهوامش:
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ط15، القاهرة، بيروت، دار الشروق، من التعليق على الآية 122 من سورة التوبة، ص1734 وما بعدها
(2) محمد أبو زهرة: أصول الفقه، القاهرة، دار الفكر العربي، 2004، ص 341 وما بعدها
(3) مصادر التشريع في المذاهب الأربعة، من كتاب: تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة:
- المذهب الحنفي: القرآن، السنة، الإجماع، أقوال الصحابة، القياس، الاستحسان، والعرف.
- المذهب المالكي: القرآن، السنة، الإجماع، القياس، عمل أهل المدينة، قول الصحابي، شرع من قبلنا، المصالح المرسلة، الاستحسان، الذرائع، الاستصحاب.
- المذهب الشافعي: القرآن، السنة، الإجماع، قول الصحابي الذي لم يعرف له مخالف، القياس.
- المذهب الحنبلي: القرآن، السنة، الإجماع، فتوى الصحابي، القياس، الاستصحاب، المصالح، الذرائع.