تعددت السور القرآنية التي تناولت قصة موسى -عليه السلام- بكثير من التفصيلات في جميع جوانب حياته -عليه السلام- فلا عجب وأن تجد قصته من أكثر القصص ذكراً في القرآن الكريم، وكأن القرآن الكريم يومض لنا ومضات من هذه القصة فلا تغيب عنا بأحداثها وخطوبها وعجائب قدرة الله فيه وتمام حكمته وجميل صنعه في كل جزئية من جزئياتها، فتناسب القصة أجواء البشر النفسية المختلفة فهي تخاطب من كاد أن يكون قلبه فارغاً -أو كان على الحقيقة فارغاً- من مصاب ألمّ به وتخاطب من غرته قوته وكثرته فاستعلى واستخف من دونه.
ونماذج كثيرة تمر عليها قصة موسى لتقدح في ذهن القارئ فيستفيق من غفلته، ويستيقظ من غيبوبته، ويتيقن أن الله مدبر الأمور، ومسبب الأسباب، وأن كل المجريات إنما لحكمة يجريها الله، ولو غابت عن حدود عقل الإنسان فحسبه أن يكون في كنف ربه وظلال مولاه ليطمئن قلبه وتهدأ نفسه تماماً كما أم موسى تلقي فلذة كبدها في اليم وقلبها يتعلق بأسباب السماء وقد انقطعت بها أسباب الأرض.
ويقول جل شأنه في كتابه العزيز: {وَكُلّاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، فقص قصص الأنبياء علينا إنما هو تثبيت للقلب البشري في خطوب الحياة وموعظة وذكرى لكل من كان له قلب، ولا سيما أن أحداث التاريخ لا تعدم التشابه بل إنها تكرر نفسها في كثير من الأزمنة، مع اختلاف المكان والأشخاص والأزمان وكيف لها ألا تتشابه أو تتكرر، وحقيقة الصراع بين الحق والباطل واحدة منذ كانت مشيئة الله لهذا الكون أن يكون وللإنسان فيه وجود.
وسيظل أتباع موسى ومحمد وكل السابقين من الرسل يتزودون الثبات والصبر واليقين من قصص خير سلف لهم في معركتهم مع فرعون المستعلي بتعدد صوره وأمثاله على مر الزمان، فكان لا بد والعالم اليوم يموج في صراعه وتيه وتخبطه من وقفة تأملية مع صفحة من صفحات صفوة الله من خلقه موسى -عليه السلام- مع أشد أهل الأرض جبروتا واستعلاء فرعون ذاك الزمان لتكون لنا هذه الصفحة وميض نور وبارقة أمل في مواجهتنا للنسخ الفرعونية المتكررة في كل وقت وحين، ولو تأملت في قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون لخرجت بدروس حري بك كمسلم وعبد لله أن تطمئن بعدها لقدرك فأنت في كنف الله، ومما استوقفني في مشاهد القصة وأحداثها:
أولاً/ إذا أراد الله شيئا هيأ له كل الأسباب لحدوثه وحفظه ورعايته ، فهذا فرعون الذي أخذ يبطش بكل مولود ذكر من بني إسرائيل؛ لأنه علم أن نهايته وهلاكه وزوال ملكه على يد مولود منهم، فتأمل إرادة الله وأقداره فالذي كان يخشاه فرعون يصير نزيل قصره محاط برعاية من في القصر وتحت جناح فرعون نفسه: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص:9] وجاء في تفسير قوله تعالى: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَك} "فقال: أما لك فنعم، وأما لي فلا فكان كذلك، وهداها الله به، وأهلكه الله على يديه" [عمدة التفسير].
ثانياً/ سياسة جبابرة الأرض وفراعنتها واحدة في استخدام العنف والقتل والبطش؛ حفاظاً على سلطتهم وملكهم، وقد غاب عنهم أنهم لن يقفوا في وجه إرادة الله ولو دامت العروش لمن سبقهم لما وصلت إليهم وإذ يمكرون فالله خير الماكرين.
ثالثاً/ استخفافهم بالناس وحرصهم على قمع التفكير خارج صندوقهم، وإظهار شدة حرصهم على مصالح الرعية؛ فكل من يخرج من دوائرهم فهو عدو لدود، فأنت مواطن صالح ما دمت لا ترى إلا ما يرون ولا تعتقد إلا بما يعتقدون.
رابعاً/ الموقف المشرق للمرأة المسلمة في التزامها لأمر الله وطاعته وتغليب أمره على رأيها وعاطفتها فإذا قضى الله شيئاً ما كان للمؤمنين من خيرة في أمرهم، فانظر لأمّ موسى تلقي به بيديها في اليم لقوله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] وجاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه" [الطبري] وتصرف أخته الحكيم فتكتم مشاعرها وتشدد على قلبها كي لا يفتضح أمرها وأمها وفي ذلك رد على من يشككون بمقدرة المرأة على حفظ الأسرار الخطيرة.
وهذه آسيا -امرأة فرعون- التي لم يمنعها جبروت زوجها ولا بطشه من الإيمان بدعوة موسى ورسالته والكفر بفرعون، فلم تتذرع بضعفها أمام جبروت زوجها بل لم تتكل على كون أمرها بيد زوجها؛ فالمرء لا تملك كل القوى أن تقيد من حرية فكره ومعتقده مهما كان مستضعفاً أو ضعيفاً، فتأمل اختيارها لما عند الله -عز وجل- وتنازلها بمحض إرادتها عن حياة القصور وترفها ونعيمها، فاختارت ما عند الله؛ لأنها أيقنت أنه خير وأبقى.
خامساً/ أهمية المؤازرة في تبليغ رسالة الله ورفع لواء الدعوة ومواجهة الباطل والطواغيت وإدراك موسى لأهمية المهمة والرسالة التي كلفه الله بها، فلا حرج أن يشد الإنسان عضده بغيره ويتخذه سنداً وعوناً {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} [طه:29].
سادساً/ {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:34] تأمل تواضع موسى واعترافه بأن أخيه أفصح منه لساناً دون غضاضة في نفسه، ومحاولته إشراكه في الأمر دون تحرج أو حسد، فلا بأس في أن يعترف الإنسان بفضل الآخرين ودورهم في مساندته فالإنسان قليل بنفسه كثير بإخوانه .
سابعاً/ اللطف واللين وأهميتها في الخطاب والدعوة إلى الله، فهل هناك أشد عتوا من فرعون ولكن تأمل قول الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه: 44] فليست الفظاظة وغلظة القلب وسطوة اللسان وسلاطته من الحكمة في شيء ، وتفكر في قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ثامناً/ قدرة الحق على تغيير نفوس الناس ومواقفهم ومبادئهم فما أن يشرق في النفس البشرية حتى تولد من جديد خلقاً آخر، وما موقف السحرة عندما عرفوا الحق ولزموه إلا شاهد صدق على ذلك، فما هي إلا دقائق ويغير الإيمان نفوسهم تغييراً جذرياً وثباتهم على الحق والمبدأ وكيف بمن تذوق الحق مرة أن يكبو ويتجرع مرارة الباطل!
{قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
تاسعاً/ احتضان فرعون لموسى في قصره ورعايته لم يمنعه من مجابهته والكفر بما يدعيه، وإفراد الله بالربوبية؛ فقد كان موسى معول الهدم في عرش الجبروت والكفر دون أن يتحرج أو أن يمنعه إغداق فرعون عليه من قول الحق، فكلمة الحق لا تُشرى ولا تباع ولو كلفتك كل ما تملك ولو كانت نفسك التي بين جنبيك.
وأخيراً، ليس عبثا أن يسن لنا صوم يوم عاشوراء، وقد قيل بأنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون؛ كي تظل هذه القصة ماثلة أمام ناظرينا نقتفي أثر أصحابها في الثبات والالتزام والدفاع عن الحق لا نخشى بذل الثمن ولو كان من دمائنا، {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].