لفظة "اللغة" مشتقة من "لَغَا"، و"اللَّغَا" هو الصوت، والفعل "لغا" بمعنى أحدث صوتاً، فاللغة هي أصوات يعبّر بها الإنسان عن نفسه، ومنها اشتقت لفظة اللغو للتعبير عن الكلام التافه الذي لا نفع فيه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، واللغة ذاتها بحسب أنها أصوات أولاً ثم رموز وحروف ثانياً، لا روح فيها إلا أن تتصل بأسباب الأحياء، أي تتصل بألسنة تتحدثها وأقلام تَخطّها، فحياة اللغة في استعمالها.
واللغات التي تُرى في عداد الموتى؛ ماتت لأنّ أهلها إما اندثروا هم أنفُسُهُم، وإما قتلوها إهمالاً وتجاهلاً ، ولئن كانت للغة كل هذه المكانة بحسب كونها الأمّ المُحتضِنة لمجموعة الناطقين بها، فكيف حين تَسَع تلك اللغة أجلَّ كلام على الإطلاق، وأرفعَ بلاغة بلا مِراء، وأكرم مكتوب نزل على الأرض من السماء! لا ريب أنّ لمثل تلك اللغة شأناً عظيماً وشرفاً لا يُدانيه شرف إذ اختُصّت بحَمل آياتِ الله تعالى لفظاً وغاية، وتأمّل في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13]، تجد أنّ الله تعالى تحدّى عرب تلك الفترة (الجاهلية وصدر الإسلام) أن يأتوا بعشر سور ثم رتّب على عجزهم هم وجوب أن يعلم الناس إلى قيام الساعة أن القرآن كلام الله، فلو كان من الممكن أن يوجد من هو أَبْيَن من عرب ذلك الزمان لما كان في عجزهم ما يُستَدلّ به على عجز سواهم في زمانهم ومن يأتي بعدهم! لكنّ لما كان العرب آنذاك أفصح الناس قاطبة وأبلغهم كان عجزهم مُستَلزماً عجز من يأتي بعدهم، وكان ذلك العجز من دلائل النبوّة وألوهيّة الوحي [مُستفاد من دروس البلاغة للشيخ د، محمد محمد أبو موسى].
وقد ثبت - بالعلم والتجربة - أنّ مدارك الطفل تتسع لتعلم لغات أخرى خلاف اللغة الأم في سنوات عمره الأولى، لكنّ المنظور التربوي بالعمق الذي نفتقر إليه في البناء المسلم، حاسم في اعتقاد أنّ الخير في تأخير تعليم الناشئ العربي أيّة لغة أجنبية حتى نهاية المرحلة الابتدائية على الأقل (حتى عشر سنوات، قد تزيد أو تقل بحسب بيئة ونهج التربية)، ولا يضرّ الطفل عامة ما "يلتقط" من مفردات اللغات الأخرى التي تعرض له مما يشاهد أو يُعَلَّم في المدرسة، طالما كان الأساس والتركيز على اللسان العربي، وهذا بخلاف عكس المعادلة لتكون العربية التقاطاً والأجنبية أساساً! وذلك التأخير لا يؤثّر سلباً على طاقة الناشئ على التمكّن من اللغات الأجنبية كما يُذَاع، وإنما يهيئ له الفرصة ليرسخ في لسانه العربي رُوحاً وهويّة، وتستوي عنده معاني الإسلام على وجهها الأصيل من البداية، ومن رَسَخ في أرضه الأم كان أقدر الخَلق على التمكّن في أيّة أرض أخرى يخوضها في أيّة مرحلة عمرية، ما لم يَحُل حائل مُعتبَر، وأصول اكتساب اللغة وتعلمها في جوهرها واحدة، فمن رَسَخ في واحدة بحقّها مَلَك تلك الأصول وفُتِحَتْ له بها أبواب الرسوخ في أخريات -إذا شاء- والناشئ في بيئة غير عربية يكون تعليمه العربية بالتوازي مع الدين ضرورة وأولوية، فمن فاتته النشأة في العربية فلا أقلّ من أن ينشأ عليها، ومن فاته الاثنان فاته من الخير بحسبهما.
من فاتته النشأة في العربية فلا أقلّ من أن ينشأ عليها، ومن فاته الاثنان فاته من الخير بحسبهما
والمشكلة في تعريض الطفل لمفردات البيئات والثقافات الأجنبية أنّ ملكات الغربلة والفصل لم تستقم عنده كفاية ، فيقع بالضرورة تداخل وتشابك بين العربية وما يزاحمها من لغات أجنبية يتعرّض لها، بما يؤدي على المدى لهُجْنَة في تصوّراته وتلبّك في ثقافته، فيتصوّر -مثلاً- دلالة الكلمة العربيّة على ما يُراد بها عند الأعاجم، كما في دلالات ألفاظ: الحق، العدل، المساواة، الإنسانية، العقيدة، السلطة والحكم... وهذا الخلط في الفكر يصبّ تَبْعاً بنصيب في خلط القلب، فيتعذّر على كيان الناشئ في الإسلام أن يَصفُوَ ويَخْلُص للتلقّي عن ربّه، مع أنه وُلِد بأعظم نعمة بعد نعمة الإسلام، وهي نشأته في بيئة عربية لأبوين عربيين! وكم من مسلمي الأعاجم من يتمنى مثل تلك النعمة، ولو استطاع لافتدى في مقابلها ملء الأرض ذهباً!
كم من مسلمي الأعاجم من يتمنى مثل تلك النعمة، ولو استطاع لافتدى في مقابلها ملء الأرض ذهباً
فهذا ميدان جهاد ومجاهدة ذو خطر عظيم، يجب ألا يُفرِّط فيه الوالدان بسهولة أبداً، بل عليهما أن يثابرا ويبذلا غاية وسعهما مادّياً ومعنوياً، إيماناً واحتساباً.
ومن المراجع النافعة تربوياً:
• من وصايا الآباء للأبناء - محمود شاكر
• من أدب الوصايا - زهير محمود حموي
• كيف نربي أولادنا وما هو واجب الآباء والأبناء؟ - محمد جميل زينو
• هكذا ربّى المسلمون أبناءهم – محمد شعبان أيوب
• نظرية تعليم اللغة العربية الفصحى بالفطرة والممارسة - عبد الله الدنّان