من بين أهم الحقائق التي ينبغي أن تُوقِر كعقيدة في ضمائرنا كمسلمين، وثبتت كحقيقة لدى سائر أبناء الجنس البشري من مقتضى واقع ما عاشه عبر قرون طويلة من مكوثه في هذه الأرض، هو أن لكلِّ شيءٍ وجهَان، إيجابي وسلبي، وأنه مهما بلغ من "عُلوِّ" شأن الإنسان في ناظرَيْه؛ فهو يبقى كائناً ضعيفاً لا يعلم شيئاً، وما يعلمه؛ إنما هو ما شاءت حكمة اللهِ تعالى له أنْ يعلمَه.
لكنَّنا، وكما أخبرنا القرآن الكريم بكل ذلك، أخبرنا أيضاً بأنَّه من أبرز سمات الإنسان، الغرور ونسيان دروس الأحداث وعِبَر الحوادث التي يمرُّ بها أو يجدها مكتوبة في أوعية الحفظ المختلفة التي تسجِّل لنا ما مرَّ وما نمرُّ به، وما مرَّت وما تمرُّ به مجتمعاتنا والإنسانية بشكل عام.
والحقيقة أننا نجد الكثير من ذلك في جائحة وباء "كوفيد- 19" التي تمرُّ بها الإنسانية، وأهم ما وجدناه فيها، هو طمأنينة النفس إلى أننا على دين الحق، وأن القرآن الكريم هو من لدن خالقنا الحكيم العليم؛ فصادق الواقع وصادفتْ الحوادث الكثير من الأمور التي وردت في القرآن الكريم.
وهذا جزء من عقيدتنا ويقيننا بأنَّ القرآن الكريم هو من عند اللهِ تعالى، الذي خَلَق وصرَّف أمور هذا الخَلْق. يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} [الأنعام:38]، ويقول أيضاً: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]، ويقول في ذات المعنى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الإسراء:89].
ولكن وقبل تناول بعض الجوانب المتصلة بذلك، والتي تطمئِنُ نفس كلِّ مسلم إلى أن القرآن الكريم، هو كتاب اللهِ المتين، فإننا ينبغي علينا الإشارة إلى أن قراءة الحدث الآني من خلال القرآن الكريم، هو أمرٌ ليس بالبساطة التي يقوم بها البعض، ويقع بالتالي بها الكثير من الأخطاء التي تصل إلى حد الترويج لخرافات ، تأتي بأثرٍ عكسي مدمِّر على جهود الدعوة، وتقديم كلام اللهِ تعالى إلى غير المسلمين لكي يتفكَّروا فيه.
وحمل لنا زمن انتشار كورونا المُسْتَجَد الكثير من هذه الأمور، مثلما رأينا فيما انتشر عن تفسير البعض لعدد من آيات سورة "المدَّثر"، في السياق الخرافي هذا، وغير المبني على علمٍ صحيح بالمفاهيم القرآنية، وقضية تفسير الواقع من خلال نصوص كتاب الله تعالى، بشكل أضر ولم ينفع.
فعندما نقول إننا نجد ما يجري من حولنا في القرآن الكريم، نقف بصورة أخرى مختلفة تماماً في منهجيتها عن هذه المنهجية التي فيها الكثير من الاستخفاف بكتاب اللهِ العظيم، وبمسؤولية تفسيره وتقديمه للمسلمين وغير المسلمين، والكثير من عقلية الخرافة كذلك.
يقول تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحَج:73].
أليس هذا ما يحدث بالضبط في ظروف الوباء؟ الوباء الذي أصابنا به مخلوق من مخلوقات اللهِ تعالى، حتى أدنى من الذباب، واستلب الناس أعمالهم، وحياتهم الطبيعية، واستلب من الناس مدخراتهم، وقضى على أمنهم وأمانهم النفسي، ثم بعد ذلك يقفون أمامه عاجزين!
إن مسألة شمول الرؤية القرآنية للأحداث والقضايا التي تُعرَض على البشرية - فرادى وجماعات - ليست بالسذاجة التي يظنها البعض، مثل ضرورة أن نجد إشارات مباشرة، وإلا اعتبرنا القرآن الكريم مناقضاً لنفسه حاشا لله، عندما نجد الآيات تؤكد على شمول الرؤية القرآنية، بينما لا نجد كل ما مرت به البشرية من عوائد وحوادث، أو أن نلجأ إلى معادلات الأرقام الجاهلة التي يقوم بها البعض لِلَيِّ النَّص القرآني لكي يخرجون بتفسيراته على ما يرغبون.
إن مسألة شمول الرؤية القرآنية للأحداث والقضايا التي تُعرَض على البشرية -فرادى وجماعات- ليست بالسذاجة التي يظنها البعض، مثل ضرورة أن نجد إشارات مباشرة، وإلا اعتبرنا القرآن الكريم مناقضاً لنفسه حاشا لله
فعلى مستوى الحدث المباشِر أشار اللهُ تعالى صراحةً في القرآن الكريم إنه لم يذكر كل شيء عن أي شيء.. يقول تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164].
إن الله تعالى أحكم وأعظم من أن يلجأ إلى المنهجية التي يظنها البعض في القرآن الكريم فيما يخص الشمول الموضوعي والعموم الزمني، والتي تسببت في ضلال وإلحاد الكثيرين في الواقع، وإنما صاغ سبحانه النص القرآني بعظيم حكمته المطلقة؛ لكي يتضمن الشمول والعموم الذي يضمن أن يكون متجدِّداً، وصالحاً في كل زمان ومكان ، حتى يشاء اللهُ تعالى فيرفعه من الأرض.
ومن بين ما نجده عن الكورونا في القرآن الكريم كذلك، عجز الإنسان وعلمه أمام هذا الكيان المتناهي الصِّغَر، بل والأمرُّ من ذلك، وشاء اللهُ تعالى أن يكون إذلالاً لغرور الإنسان، أن علم البشر القاصر قد بات يدرك تماماً طبيعة هذا المخلوق الذي يواجه، بينما يعجز تماماً عن إيجاد علاجٍ أو لقاح له.
لقد تلقى الإنسان وغروره صفعةً لا يمكن لأيٍّ كان أن يتصورها، ففي عصر عبادة العلم والعقل من دون اللهِ تعالى تصور الإنسان أنه قد أدرك سرَّ الحياة نفسها، وإذا به يموت ويُهدَّد بالمجاعة مع نقص إمدادات الغذاء العالمي بفعل غلق المصانع وحركة النقل، ويقف علم الإنسان وعقله عاجزَيْن أمام ذلك.
لقد تلقى الإنسان وغروره صفعةً لا يمكن لأيٍّ كان أن يتصورها، ففي عصر عبادة العلم والعقل من دون اللهِ تعالى تصور الإنسان أنه قد أدرك سرَّ الحياة نفسها، وإذا به يموت ويُهدَّد بالمجاعة مع نقص إمدادات الغذاء العالمي بفعل غلق المصانع وحركة النقل، ويقف علم الإنسان وعقله عاجزَيْن أمام ذلك
ألا نجد ذلك في القرآن الكريم؟ بلى نجده، فيقول تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]، وهنا في هذه دلالتان في شأن هذا الذي نقول.
الدلالة الأولى/ أن كل علم الإنسان، إنما هو بقَدَرِ من اللهِ تعالى، يمرر منه ما يشاء وقتما يشاء وفق ترتيبه المرسوم منذ الأزل، لصيرورات الحياة الدنيا، وحياتنا على هذه الأرض. هذا نجده في جملة "أُوتِيتُمْ".
أما الدلالة الثانية/ فهي نقص علم الإنسان، وهذا نجده واضحاً جليّاً في عبارة "إِلَّا قَلِيلاً".
والقرآن الكريم كثيراً ما وصف الإنسان بالجهل بالمعنى الموضوعي، المتعلق بنقص العلم، وليس الجهل الذي يتعلق بالضلال وفساد العقيدة فحسب.
كل ذلك، وكل ما نراه من حولنا، يؤكد حقيقة قرآنية مهمة، ظنَّ الإنسان بجهالته وجهله أنه قد تجاوزها منذ عصر الثورة الصناعية ثم ثورة المعلومات والإلكترونيات، وهي أنه ضعيف.. ضعيف للغاية، ولولا لطف اللهِ تعالى بنا؛ لهلكنا.. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28].