لم يكُن من عند أنفسكم… عن عبادة الذات والأسباب!

الرئيسية » خواطر تربوية » لم يكُن من عند أنفسكم… عن عبادة الذات والأسباب!
https___specials-images.forbesimg.com_dam_imageserve_1047505244_0x0

لا يزال وباء "كوفيد- 19" هو المسيطر على الحدث العالمي؛ فمهما كان الحدث في أي مكان، فإنه ليس بعالمية الأثر والانتشار الذي حققه الوباء.

نرى ما يجري في ليبيا، وفي سوريا، وفي الولايات المتحدة، وفي أفغانستان، وفي مناطق أخرى كثيرة من العالم، إلا أنه تبقى هذه الأحداث – بما فيها ما يجري في القطب الأعظم لعالم اليوم، أمريكا – مجرد أحداث محلية أو إقليمية، بينما فيروس "كورونا المُسْتَجَد" يصل العالم من أقصاه إلى أقصاه.

ولقد طالت فترة انتشار الوباء، مع غياب الرؤية الواضحة لأي جدول زمني للتعامل معه على مستوى العلاج أو اللقاح، أو الوصول إلى مصل مؤقت لوقف انتشاره.

وبالتالي - وفي ظل تضاعيف الوباء - طالت فترة الحجر الصحي والعزل المنزلي الطوعي أو غير الطوعي في واقع الأمر؛ لأن لا أحد يحب المكوث في المنزل طيلة الوقت، وفي ظل التأثيرات الكبيرة للوباء على الحالة الاقتصادية والمعيشية للدول والمجتمعات والأفراد، فإننا نجد نبرة البؤس قد زادت، ونبرة اليأس قد تعالت.

وبالرغم من استقرارنا على قاعدة ضعف النفس البشرية، إلا أن البحث في خبايا هذه الحالة يكشف لنا الكثير من الخلل العميق الحاصل في الجوانب العقدية والإيمانية عند كثير من المسلمين.

وهذه ليست مبالغة عند توصيف ذلك السلوك من الناس بهذه الصورة؛ فهناك أدلة على ذلك من القرآن الكريم، وتفسير هذه الحالة من السهولة بمكان؛ فنحن نقف أمام أجيال نشأت وتربَّت وعاشت من دون تربية دينية صحيحة، سواء في المدرسة أو في البيوت والأسر إلا قليلاً.

وفي حقيقة الأمر، فإننا نجد الكثير من العجب مما نراه أمامنا من بعض الناس؛ فالأمر أقرب إلى عبادة الأسباب، وإعطاء الإنسان ما ليس له من فضل فيما كان عليه من أحوال قبل الوباء، وتغافل كامل عن فضل اللهِ تعالى علينا، والذي لولاه لكُنَّا هباءً منثوراً.

فهل ظنَّ الناس أن ما كانوا عليه من نِعَمٍ واستقرار عَيْشٍ قبل كورونا، هو من عند أنفسهم لكي يفزعوا عند حدوث البلاء باعتبار غياب الأسباب !

كيف نقول إذاً إننا نقرأ القرآن الكريم! يقول تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النَّحل:54].

لو كان الناس يظنون أنه كان من عند أنفسهم، فقد قالوا مثلما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، فماذا كانت النتيجة؟ يقول تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} [القصص:81].

وفي القرآن الكريم، ما يفيد أننا لو كررنا ما يقول القوم الضالون الكافرون بأنعمِ اللهِ تعالى وآياته، فإننا نكون منهم ومثلهم.. يقول اللهُ تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140].

ويقول سبحانه: {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49]، ويقول كذلك: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:79].

فإننا إذاً عندما نظن أنَّ ما كُنَّا عليه، كان من صنيعة أنفسنا، وأنه ما كان إلا بما أخذنا به من أسباب، ندخل في باب الكفرِ باللهِ – والعياذ بالله – من دون أن نشعُرَ.

الشكوى والضجر والتأفُّف كذلك... كلها أمورٌ منكرةٌ؛ لأنها تعني أنك وصلت إلى مستوى من عدم الثقة باللهِ تعالى  - عافانا اللهُ جميعاً - فهل نحن حقّاً من هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحَج:11].

في المقابل جعل اللهُ تعالى الدعاء والاستغفار طريق المسلم ووسيلته في مثل هذه الأحوال، وفي ذلك رحمةٌ منه - سبحانه وتعالى - بأنفسنا، هو أرحمُ بنا منَّا، فلو أننا أوقفنا الأمور عند الأسباب، وعند قضية أننا أصحاب الفضل فيما كُنَّا فيه، فهذا يعني أننا نقف أمام كارثة حقيقية، سوف يكون دمارنا في نهايتها؛ لأنه لا يد لنا في التحكُّم فيها، ولا أفق أمامنا لانقشاعها.

بينما لو أننا آمنَّا بأنَّ اللهَ تعالى هو المتصرِّف القيوُّم على أمور عباده وخلقه، وأنه هو صاحب الفضل العظيم علينا وقت أن كُنَّا في بحبوحة من العيش، وفي استقرار ودَعَةٍ، وأنه هو ذاته الذي ابتلانا لاختبارنا أو لعقابنا، أو أيّاً كان، فإن هذا وحده هو الكفيل بأن يدخِلَ على قلوبنا وأرواحنا السَّكِينة؛ لأننا سوف نكون مطمئنين إلى أنه كما ابتلانا، فهو القادر على رفع الابتلاء، وأنه كما أنعم علينا سلفاً، فإنه مالك المُلك، وخزائنه لا تنفد، فيكونَ أن ندعوه برحمته أنْ يعيد إلينا ما راح من نِعَمِه.

لو أننا آمنَّا بأنَّ اللهَ تعالى هو المتصرِّف القيوُّم على أمور عباده وخلقه، وأنه هو صاحب الفضل العظيم علينا وقت أن كُنَّا في بحبوحة من العيش، وفي استقرار ودَعَةٍ، وأنه هو ذاته الذي ابتلانا لاختبارنا أو لعقابنا، أو أيّاً كان، فإن هذا وحده هو الكفيل بأن يدخِلَ على قلوبنا وأرواحنا السَّكِينة

إننا يجب أن نحذر أن نكون ممَّن قال اللهُ تعالى فيهم: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15، 16].

كذلك إننا في مرحلة ما بعد كورونا، ينبغي أنْ نحذر من أنْ نكون ممَّن قال فيهم اللهُ تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يُونُس:12].

وفي الأخير، فإنه أيها الإنسان، لا تظن أن ما كان بكَ من نعمةٍ، كان من نفسك، وإذا ما كنت تظنُّ كذلك، فهذا يعني أنك تستحق أن يكون كورونا المستجد –ضمن صوره واحتمالاته المختلفة– إنما هو عقابٌ لك من اللهِ تعالى، وما هذا بقولي، وإنما هو قول الحكيم العليم!

وبعيداً عن ذلك، فإن هذا كله يطمئننا إلى أننا على صواب إذ نؤمن باللهِ تعالى، ونسلِّم له أمرنا، فالقرآن الكريم – كما رأينا – أوضح لنا كل ما نمرُّ به، وصنَّف لنا قلوب البشر، وما في ضمائرهم، وجعل الأمور أمامنا واضحةً جليَّةً بما لا يمكن أن نجده في أي كتابٍ آخر مهما بلغت مهارة صاحبه وعلمه، وبما يدل أن القرآن الكريم هو من لدُن حكيم عليم، خالق الناس والكون، وبالتالي، هو الأعلم بهم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …