مهما بلغ امرِئٌ أن يذكِّر نَفْسَه بحقيقة الموت، فإنه حين يَخْبُر تلك الحقيقة -خاصة إذا كان الميّتُ صَفِيّاً له- لا يكون الخبر كالمعاينة، والصَّفِيُّ كما عَرَّفه ابن الجَوزيّ في "كَشْفِ المُشْكِل": "المُقَرَّب المُصطفى كالوَلَد والأخِ، وكلُّ مَحبوبٍ مُؤْثَر"، ذلك أنّ تَفكُّر النفس في الموت -من باب التذكرة بحقيقة غيبية عنها لحَثِّها على اغتنام المتاح من عمرها وصحتها ووقتها- غير تعامل النفس مع تَبِعات موتٍ حاضر صار حقيقة مشهودة أمامها، فكلّ منهما امتحان من نوع مغاير.
وفيما يلي مُشاركَةٌ من تجربة شخصية لثمانية مَعَالم في التعامل مع مصيبة الموت، خاصة في عزيز:
1. الصبر لا ينتهي عند الصدمة الأولى: من فضل الله تعالى أن يثبّت العبد عند تلقّيه نبأ الوفاة، ويُلهِمه الاسترجاع والحمد والاحتساب، ويُجنّبه النواح والصياح والندب وسائر المحظورات في ذلك المقام، فيظنّ العبد بذلك أنّه قد تجاوز الصدمة الأولى وأنّ صبره تحقّق بحمد الله، ويستكين لذلك.
الصدمة الأولى بحدّ ذاتها قد تكبح جماح المشاعر مؤقتاً؛ لأنها تُذهِل صاحبها عن تَشرُّب كامل وَقْعِ المصيبة واستيعاب حقيقتها وآثارها
لكنّ الصدمة الأولى بحدّ ذاتها قد تكبح جماح المشاعر مؤقتاً؛ لأنها تُذهِل صاحبها عن تَشرُّب كامل وَقْعِ المصيبة واستيعاب حقيقتها وآثارها، حتى دفن الميت -على الأقل- وربما ليوم أو بضعة أيام بعدها، ثمّ كلما أفاقت الحواس واستوعَبت وَقْع المصيبة وتَبِعَات الموت الكبرى: المفارقة والغياب -وإن كان المسلم يعلم أنهما مؤقّتان وأنّه لاحِقٌ لا ريب بمن سبق- قد تبدأ مشاعر حبيسة في الانفجار عشوائياً، بما قد يوقِع صاحبها في محذور أو مخالفة ممّا تجنَّبه أول الأمر، لذلك ينبغي أن يتفكّر المُصابُ في نفسه مع نفسه في منشأ مشاعره وتوصيفها؛ كي لا يكون فيها أثر غضب أو سخط على تقدير الله من وجه خفيّ ، كأن يشعر أنّ المُتوَفَّى توفّي مُبكّراً أو أنّه كان يستحق فترة أطول معه أو تمهيداً لقرب وقوع الفراق بينهما... وها هنا محل تطبيق وصيّة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - التي سبق شرحها: "وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" (صحيح مسلم).
2. احتساب التوجع والتألم: الاحتساب هو طلَب الثواب من الله تعالى، فيما يعمله المسلم من عمل -سواء كان فرضاً أو تطوّعاً- وكذلك فيما يصيبه من مصائب، ولا بدّ أن يريد المسلم وينوي وجه الله تعالى، وإلا لا يدخل في وعد المثوبة من كان ذاهلاً غافلاً عن نيّة الاحتساب وطلبه، ففي الحديث: "إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليقُلْ: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندَك أَحتَسِبُ مُصيبَتي، فأَجِرْني فيها، وأَبدِلْني بها خيراً منها" (رواه أبو داود)، والمصيبة هي كل ما يصيب الإنسان مما فيه كراهة له وتأذٍّ منه ولا قُدرَةُ له على دَفْعِه، ومعنى ذلك الدعاء: "إقرار يا ربّ بأننا مَملوكون وعَبيد لك، وإليك -عزَّ وجلَّ- نَرجِعُ في حَوْلِنا وقوَّتِنا، وعندك يا ربّ نحتسب ما أصابنا وإياك نسأل أن تجعل لنا فيه أجْراً وثَواباً عندَك في الآخرة، وأن تُبدِلْ تلك المُصيبَةَ الَّتي وقعَتْ بنا بنعمَةٍ خيراً مِنها وأفضَلَ في الدُّنيا"؛ فالدعاء جامع لِخَيْرَي وعَزاءَيْ الدنيا والآخرة مع حفظ أدب العبودية والتسليم، وهو بذلك أعظم تسلية وسُلوان لكل مصاب ومحزون.
لا بدّ أن يريد المسلم وينوي وجه الله تعالى، وإلا لا يدخل في وعد المثوبة من كان ذاهلاً غافلاً عن نيّة الاحتساب وطلبه
3. تجديد الاحتساب بالذكر والدعاء: فالاحتساب -كما الصبر- عند الصدمة الأولى غير الاحتساب فيما يلي بعدها، ولا بدّ من النيّة فيه واليقظة له كما سبق بيانه، ويفيد لذلك مطالعة آيات وأحاديث الصبر في مصيبة الموت وشروحهما، والتعزّي بما أعدّ الله من جزاء للمسلم حين يَقبِضه ويُنزِله في جِوَارِه، ولأهل الميت حين يصبرون على مصيبتهم فيه، من ذلك ما قاله ربّنا تبارك وتَعالَى في الحديث القُدُسِيّ: {ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَه إلَّا الجَنَّةُ} (صحيح البخاري)، "احْتَسَبَه: أي صبر راضياً بقضاء الله راجياً فضله" (ابن حجر - فتح الباري).
4. التصريح بالحاجة: أي بحاجة المصاب للانفراد بنفسه أو للمواساة من غيره، فالناس طبائع في التعبير عن الحزن وفي استقبال المؤازرة وفي تقديمها كذلك ، وكم من إشكالات تترتب على فرضيات الناس من تلقاء أنفسهم حاجة المصاب للوحدة فينصرفون عنه بالكليّة، أو ضرورة الخلطة وعدم العزلة فيجثمون على أنفاسه! فلا هو صَرَّح لهم ولا هم سألوه!
5. الحزن والبكاء على فراق الميت والحنين لوجوده وما أشبه ذلك لا يعارض الرضا بقضاء الله ولا الصبر على المصاب: كما ورد الشرع ببيان ذلك باستفاضة في الآيات والأحاديث، وكما ثبت من سيرة قدوتنا المصطفى -عليه الصلاة والسلام- حتى إنّ المؤرّخين سمّوا العام العاشر من البعثة "عام الحزن" إذ توفّيت فيه زوجه السيدة خديجة -عليها الرضوان- وعمّه أبو طالب الذي كان يذود عنه ويحنو عليه (ويضاف لحزن فَقْدِه الحزن على موته كافراً)، ولم يكن ذلك الحزن استنتاجاً من عند المؤرّخين، بل ظهرت أَمَاراتُه على المصطفى -عليه الصلاة والسلام- حتى عرفها فيه من حوله، وهو -عليه السلام- أكمل الخلق في أدب العبودية وحسن التسليم لله تعالى، من ذلك ما ورد عن خولة بنت حكيم لمّا جاءت تتفقد أحوالهم بعد وفاة السيدة خديجة -عليها الرضوان- قالت: "يا رسول الله، كأنِّي أَرَاكَ قَدْ دَخَلَتْكَ خَلَّةٌ لِفَقْدِ خَدِيجَةَ"، فقال عليه السلام: "أَجَلْ، أُمُّ الْعِيَالِ وَرَبَّةُ الْبَيْتِ"، والخَلَّة هي الثُّقْب أو الفُرْجَة، والمقصود بها هنا أثر الفراغ والوحشة الذي يخلّفه موت عزيز، ورُوِي كذلك: "وَجَدَ (أي حَزِن) رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلّم- على خديجة حتى خُشِيَ عليه (من الحزن)، حتى تزوج عائشة" (ابن حجر - الإصابة في تمييز الصحابة).
ومعلوم من سيرته -صلى الله عليه وسلم- أنه ما نسي ذكر السيدة خديجة ولا نسي تعهُّد أقاربها وأصحابها حتى بعد تعدّد زوجاته، من ذلك ما روى مسلم في صحيحه، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ، وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا!" وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَبَحَ الشَّاة يَقُولُ: "أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ"، فَأَغْضَبْتُهُ يَوْماً فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ (أي تُكثِر ذِكْرَها حتى بعدما تُوُفيّت)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا".
6. التسلّي بالأمل: الإغراق فيما اُخِذَ وفَنِيَ وطول التفكير فيما مضى وفات يُضَيّق على صاحبهما نفسه، والأولى أن يوسِّعَها بفسحة الأمل فيما يستقبل ويأتي والرجاء فيما يَبقى ويَخلُد، فوجع الفراق يهون على المسلم حين يستحضر يقين اللحاق ، وغشاوة ألم الفقد ترتفع بذكر الله الحي القيوم الباقي الذي كَتَب الموت والفناء على أهل هذه الدار الأولى المؤقتة، وعَوّضهم الدار الآخرة الباقية، خالدين فيها أبداً، لا يموتون ولا يهرمون، وكبرى آمال المسلم التي يتعزّى بها أن يبدل الله الميت خيراً وأبقى مما خَلّفَه وراءه أو فاته في الدنيا، ولا يُنزِل مخلوقاً مَنزِلَته الحَقَّة خيراً مِن خالِقهِ الذي بَرَأَه، فهو يُكرُم مُدخَلَه ويوسّع نُزُلَه إذا مات على التوحيد، أو يعذّبه ويهينه بما يستحق إذا مات على الكفر والعياذ بالله.
الإغراق فيما اُخِذَ وفَنِيَ وطول التفكير فيما مضى وفات يُضَيّق على صاحبهما نفسه، والأولى أن يوسِّعَها بفسحة الأمل فيما يستقبل ويأتي والرجاء فيما يَبقى ويَخلُد
7. الاشتغال بالعمل: لعلّه لا يخلو أهل ميت ومعارفه من استشعار مرارة ندامة وحسرة تفريط في حق الميت، وحتى هذا له فرج بفضل الله وحمده، فالله تعالى لم يجعل الموت قطيعة للصِّلات وفصماً للأواصر بين الخلق، بل امتداداً من نوع آخر يقوم على الغيب لا الشهادة، لذلك يمكن لكل نادم التدارك ولكل حريص البذل بالاشتغال بالباقيات الصالحات التي تنفع الميت ويصله ثوابها ، فيشكر العامل بذلك نعمة ربّه عليه وعلى الميّت، ويبني جسور وصال جديدة معه، عِوَضاً عن إهدار طاقة النفس في طول الوقوف على أطلال الحسرة والتأسف، بما قد يوقِع صاحبه في محذورات ومحظورات قَلبيّة وقَوليّة، وإنَّ التفريط في برِّ الدنيا يهون في جنب برِّ الآخرة، خاصة وأنّ الميت يكون أحوج له حين ينقطع عمله.
التفريط في برِّ الدنيا يهون في جنب برِّ الآخرة، خاصة وأنّ الميت يكون أحوج له حين ينقطع عمله
8. هذا ويَلزَم التنويه على ضرورة تعلّم كل مسلم لأحكام وآداب الجنائز، كما يتعلم الطهارة والصلاة والصيام، من معاملة الميّت وكيفية الغسل وصلاة الجنازة وصِيَغ الدعاء للميت والتعزية والردّ على التعزية وكيفية صِلَة أهل الميت ونفعهم... إلى آخر مسائل ذلك الباب، فمصيبة الموت حقٌّ في حقِّ أي مخلوق وفي أي وقت، والمسلم أَوْلَى الناس بالاستعداد لها قبل وقوعها، لا التخبّط في معرفة أصولها حال الواقعة !.