هل العبادة حقّاً تجارة مع الله؟

الرئيسية » خواطر تربوية » هل العبادة حقّاً تجارة مع الله؟
موضوع العبادة

كثُرت في خطاب الدعوة اليوم تشبيهات المقايضة وتصوّرات المتاجرة في معاملة الله تعالى، اتّكاءً على آيات وأحاديث تستعمل ذلك التشبيه، بدون ضبط لأبعاد معناها وتطبيقها من المُتَكلّم أو عند المُستَقبِل، فنشأ في حِسّ المسلم المعاصر استشعار جادّ لصِلَة العبودية على أنّها صلة مَصرِفية أو بنكيّة على الحقيقة: فالعبد يُودع في (حسابه) عند الله (رصيد) عبادة ما، وينتظر مردودها (نقداً عياناً) في (المقابل)، بذوق حلاوة أو تحقيق أمنية أو دفع مَضرَّة، وإذا زادَ (المُودِع) في رصيده فوق الفريضة نافلة ما، طاشت توقعاته من (شهادة الادخار) تلك، وصار ينتظر (الفوائد المضاعفة) لها، من انفتاح أبواب السماء برزق مُنهَمِر، أو تحصيل المكانات العَليّة فوق الخلق في الدنيا وعند الله في الآخرة، أو غير ذلك من الأطماع والأمنيات.

وما في تلك الأماني والتطلعات بأس لو أنها تنضبط بنفسية العبودية، فتصدر من نفسيّة الطمع في فضل الله ورجاء وجهه الكريم، بل هذا الطمع من العبادة، وإنما البأس كلّ البأس في انتظار حلاوة العبادة كمُقابِل للتعبد، واستشعار أنّ الجزاء حقٌّ مستوفًى لقاءَ التفضّل بالقيام بالعبادة، كل ذلك بنفسيّة الاشتراط عليه تعالى، أو التهديد الضمني بطلب البُرهان وإلا أُفلِتَ العِنان!

فإمّا أن نشهد جدوى العبادة على ما نتوقع وحين نتوقع، أو يتزعزع يقيننا في نفع العبادة بالكلية، وربّما على المدى فيمن نعبد!

والحقّ أنّ الأصل في العبد العبودية، أي أنه يتعبد لله على أساس العبودية، بكل ما تحمله العبودية من معانٍ ودلالات، على رأسها الاضطرار والافتقار، لا على أساس "تصالح المصالح" أو بنفسية "تبادل المنافع" مع ربه ، فإنّ اشتراط الأجرة وتبادل المنافع واستيفاء الحقوق لا يكون إلا من نِدٍّ لندّ، والعبد لا يكون نِدّا لسيّدِه بحال، ولا يَحِق له أن يتطاول بتوهّم ذلك.

اشتراط الأجرة وتبادل المنافع واستيفاء الحقوق لا يكون إلا من نِدٍّ لندّ، والعبد لا يكون نِدّا لسيّدِه بحال، ولا يَحِق له أن يتطاول بتوهّم ذلك

 وإنّك مضطر للعبودية بحُكم خِلقتك عبداً من جهة، ثم أنتَ المحتاج لعبادة ربك بحكم افتقارك إليه وتعلّق نجاتك برضاه عنك من الجهة الأخرى ، استحضار هذه المعاني يبدّد نفسية التفضل والمنّ على الله تعالى بـ "اختيار" ممارسة العبودية له!

فإنّ كسب العبودية كله عائد نفعه أو ضرر تركه على العبد وحده لا محالة، فلا يزيد الطائع في ملك الله ذَرّة، ولا ينتقص العاصي منه فَتيلاً !

وأمّا أنّ الله - تعالى - جعل لعبده فيما يمارس من عبودية مصالح ورتب له فيها منافع، ففضل مَحضٌ من المولى -سبحانه- على عباده، يبسطه أو يقبضه كيف يشاء على من يشاء، وما على العبد إلا التسليم لله، طامعاً في فضله، ومُستَبشراً بوعده، وموقناً أنّ ربه ما كان ليضيع إيمانه بحال، بدون شرط ولا قيد.

ولذلك على كثرة صور العبادة الصادرة منا، لا نكاد نستشعر أثرها؛ لأنّ الخلل كامن فينا نحن بداية وانتهاء، فالنفسية المتعالية المنّانة على الخالق تعالى أبعد ما تكون عن إيصال صاحبها لحلاوة العبادة، التي لا يمكن أن يذوقها إلا "عبد" بداية؛ فالعبد هو الذي يرجو فضل الله ويخشى عقابه ويوقّر جنابه؛ لأنّ العبادة والتعبد والعبودية كلها تقوم على التذلل والخضوع والافتقار لله تعالى، ممن يدرك حق خالقه عليه ويشعر بحقيقة حاجته له، وعدم استحقاقه لشيء عليه إلا أن يتفضل سبحانه، ومن ثَم فنفع العبادة لا يمكن أن يتولَّد إلا حين تنبع من نفسيّة عبد، وأثرها لا يمكن أن يَقَرَ إلا في نَفْس عبد.

ما أشبه حالنا مع تمنّيات حلاوة الطاعات والعبادات، بحال من مَنّوا على رسول الله صلى عليه وسلم من الأعراب بإيمانهم به بدون مقاتلة

وما أشبه حالنا -مع تمنّيات حلاوة الطاعات والعبادات- بحال من مَنّوا على رسول الله -صلى عليه وسلم- من الأعراب بإيمانهم به بدون مقاتلة، فردّ الله عليهم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

والحلّ أن نطرق باب الله طرق عبد يستأذن على سيّده ، طرق طامع يرجو ربه، وخائف يحتمي بمولاه، ومخلوق يؤدي حق خالقه عليه، قبل كل حاصل وبغض النظر عن أي تحصيل.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …