الاضطرار للثورة
الديكتاتورية من أخطر الفيروسات المنتشرة في عالمنا العربي والإسلامي، وإذا كانت العلمانية لا تجد لها وطناً عندنا، فالديكتاتورية هي صناعتنا، ولنا فيها براءات اختراع.
لم تترك الأنظمة الحاكمة لشعوبها خياراً، فقد أغلقت في وجوههم كلّ متنفس، فلم يعد أمامهم إلا الانفجار الثوري الكبير في الربيع العربي.
الثورة لا تعني الفوضى؛ لأن الثورة فعل شعبي سلمي في وجه الأنظمة الديكتاتورية القمعية .والذي يشعل الفوضى في الثورة هم أعداؤها الذين لا يريدون لها أن تنجح، وهل يتخيل عاقل أن يسعى أبناء الثورة أنفسهم -الذين يريدون نجاحها ووصولها لغايتها وقطف ثمارها- إلى الفوضى التي تذهب بكل ذلك، بل وتحول الثورة إلى شرٍّ يستعيذ الناس منه ويودون أن لو بقوا على حالهم مع الديكتاتورية والفساد.
كثير من الثورات لازمتها الفوضى، وهناك بعض الثورات التي مرت بسلام، والثوار عندما يقودون ثورتهم إنما يتمنون الثورة السلمية من أولها إلى آخرها، ويجتهدون لذلك، كما أن أغلب الثورات تنم عن فعل لا إرادي عند جمهور الثائرين؛ فهم يُدفعون إليها دفعاً، وربما عن غير رغبة، وذلك من شدة ضغط الأنظمة التي تضغط إلى حد الانفجار.
الذي يحدث في الثورات إنما هو انفجار تحت ضغط غير محتمل، فلا يصح أن نعاتب المنفجر، إنما يكون العتب واللوم على الضاغط الذي ضغط وضغط إلى حد الغباء والغشم.
أغلب الثورات تنم عن فعل لا إرادي عند جمهور الثائرين؛ فهم يُدفعون إليها دفعاً، وربما عن غير رغبة، وذلك من شدة ضغط الأنظمة التي تضغط إلى حد الانفجار
السلمية وإلا...
لقد اضطرت بعض الأنظمة شعوبها للثورة المسلحة، وماذا كنا نتخيل أن يفعل الناس مع أنظمة تقتلهم في الشوارع والمنازل لمجرد أنهم خرجوا في تظاهرات سلمية ليُسمعوها أصواتهم.
لقد كانت المشاهد التي تأتي من بعض الدول مشاهد مذهلة، وفيها تجبّر من الأنظمة إلى حدّ غير مصدق، لقد أرادت بذلك قاصدة أن تضطر الناس للعمل المسلح، فتجد بذلك نجاتها، وسببا أمام العالم لاستمرار وجودها واستمرار قمعها وفتكها كذلك.
عندما تجد الأنظمة الحاكمة ثورة شعبية سلمية لا تستطيع احتواءها، فإنها تضعُف أمامها إلى حد ينذر بالسقوط، وحينها تجد في الحرب الأهلية فرصتها الوحيدة للبقاء ، عندها يضطر الثوار لحمل السلاح، فتكون الصورة حينها أنظمة حاكمة تحارب عصابات مسلحة.والثوار مخطئون في ذلك عندما ينجرون للعمل المسلح، برغم أن الأمر يكون في أحيان كثيرة أكبر من القدرة على التحمل؛ فالثوار يضغطون بثوراتهم السلمية على الأنظمة بمظاهراتهم السلمية واحتجاجاتهم ويزيدون من ضغطهم كي لا تتحمل الأنظمة الضغط فترحل.
والأنظمة تضغط حينها على الثوار بالقتل والاعتقال والمبالغة في القمع كي لا يتحمل الثوار الضغط فيلجؤون للعمل المسلح، وفي العمل المسلح نجاة الأنظمة، عندما تجد سبباً لبقائها أمام العالم، لمحاربة الجماعات المسلحة، والتي لا يكره العالم ولا يخشى أكثر منها.
مهما بلغت الأنظمة من القمع، ما كان ينبغي على العاقلين المستبصرين أن يحملوا السلاح في وجهها، وحمل السلاح في وجه الأنظمة الحاكمة قضية خلافية -إذا نظرنا إليها بالمنطق الشرعي الديني- والذي عليه جمهور العلماء حرمةُ الخروج على الحاكم بالسلاح مهما بلغ في جوره ما دام يُشهد له بالإيمان.
لكن، بعيداً عن الخلاف حول هذه النقطة، فلنحكم على الموضوع من نتائجه لا من أسبابه، فلو افترضنا جوازَ الخروج على الحاكم بالسلاح بدايةً إن بالغ في جوره، فإننا نتساءل حينها عن نتائج هذا الخروج، والذي سنجد فيه إجابة قاطعة لتساؤلاتنا، أنه لم يفلح خروج مسلح واحد تقريباً على الأنظمة الحاكمة؛ ذلك لأن الأنظمة تمتلك من الأجهزة الأمنية والعسكرية والمخابراتية ما لن تستطيع أيةُ جماعة مسلحة هزيمتها، وهذا ما تشهد به الأحداث، وما يشهد به التاريخ.
مع ما في الخروج المسلح على الأنظمة الحاكمة من فتنة ودماء وقتل وسلب ونهب، مما يجعلنا نرضى بالبقاء في ظل الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة، على الخروج عليها ومواجهتها بالسلاح.
الديمقراطية أو الثورة السلمية ولا ثالث لهما
لا حل إلا في العمل السياسي الديمقراطي، مع زيادة التوعية للشعوب يوما بعد يوم، فإن كانت الثورةُ، فلتكن ثورةً سلميةً، وليصبر الناس فيها قليلاً، وإنما النصر صبر ساعة، فإن أراد النظام أن يضطرهم للسلاح، فليس لهم إلا أن يستمروا على السلمية، فإن استطاعوا فبها ونعمت، وإن لم يستطيعوا الصبر فليعودوا إلى أماكنهم، وليتركوا الجولة للنظام، وليعودوا بعد ذلك في جولة أخرى ولو بعد حين، فالحرية غالية الثمن، وتحتاج إلى أعمار وأعمار .
المهم، التأكيد على العمل السياسي الديمقراطي الذي فيه زيادة التوعية للشعوب يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، مع التأكيد على السلمية التامة للثورات متى كانت وأين كانت، ولا ضير إن ماتت أجيال وهي تسعى، لتخلفها أجيال فتسعى بسعيها، حتى يأتي الجيل الذي ستكون على يديه الحرية الكاملة والعزة التامة.
وإن الله لا يحاسب الناس على عدم بلوغهم الغايات، وإنما يحاسبهم على عدم اجتهادهم في الأخذ بالأسباب والممكنات؛ فإذا أخذ الناس بالأسباب التي يستطيعون فلهم الأجر التام من الله، وإن لم يصلوا لغاية، ولا يحزنهم حينها أنهم لم يروا الغاية تتحقق ليعيشوها في حياتهم، فما الحياة الدنيا إلا حياة النقص والفوات.
والأمر المحزن أن يعيش الناس عيشة البهائم، يطعمون ويتناسلون، ولا يبحثون عن حرية وكرامة وعدالة، أما أن يبحثوا، فهذا ما يجعل لحياتهم قيمة، وإن لم يصلوا لما يبحثون عنه.
إن الله لا يحاسب الناس على عدم بلوغهم الغايات، وإنما يحاسبهم على عدم اجتهادهم في الأخذ بالأسباب والممكنات
نتائج الثورات السلمية
الثورات السلمية ليست حتمية المآل البئيس، وفي التاريخ ما يؤكد على أن هناك ثورات سلمية نجحت ووصلت لبغيتها، مثل ثورة المهاتما غاندي في الهند ضد الاحتلال الإنجليزي، وثورة الخميني في إيران، وغيرهما...
وقد نجحت ثورة تونس، كممثل وحيد ناجح لثورات الربيع العربي، وحافظت على كونها سلمية مرت بسلام وسط الأمواج والعواصف من حولها، فالثورات السلمية ليست حتمية المآل البئيس، ومن حق الشعوب المضطهدة أن تحلم بها، وتحلم بنجاحها كما نجحت في بعض الأماكن.
الانقلابات والارتدادات التي حدث لثورات الربيع العربي تؤكد ما ذهبنا إليه سابقا وأكدناه، من أن الشعوب معذورة في انفجاراتها هذه، فهي تتعامل مع أنظمة ليست ديكتاتورية وقمعية فقط، بل هي أنظمة غاشمة وغشيمة تضطر شعوبها للانفجار الشعبي أولاً تحت الضغط الديكتاتوري الهائل عليها، ثم تضطرها للانفجار المسلح بتآمرها على ثوراتها السلمية أثناءها وبعدها، وقد وصل غُشم هذه الأنظمة إلى حد إحداث المذابح في شعوبها، فما هذا الغشم الذي لم يُسبق بمثله.
فشل الثوار ففشلت ثورتهم
مصطلح "الثوار" عندما نطلقه فنحن نقصد به بعضاً من وجوه الثوار الذين فوضوا أنفسهم للحديث باسم الثورة والنيابة عن الجموع فيها، وهذا لا ضير فيه، فلا بد لكل ثورة من متحدثين ومفاوضين، الثورات العربية كانت ثورات شعبية عفوية، تحدث باسمها الكثيرون، وفاوض باسمها الكثيرون.
وهؤلاء الذين تحدثوا باسمها وفاوضوا باسمها كانت لهم أخطاء كثيرة، أهمها أنهم اختلفوا فيما بينهم، ولعبت بهم الأنظمة حتى جعلتهم يتعادون فيما بينهم، بل ويصل الأمر إلى أن يصطف بعضهم مع أتباع هذه الأنظمة ضد البعض الآخر من أبناء الثورة، لمجرد النكاية السياسية والحسد السياسي، والإسلاميون أخطأوا مثل غيرهم بعد الثورات، وأخطأوا أكثر عندما تولوا الحكم.
وكانت أكبر أخطائهم حين تصلبوا في بعض الأماكن، إذ رأوا المؤامرة تُحاك ضدهم أمام أعينهم، وتصنع للانقلابات قاعدة شعبية، ثم وقفوا جامدين، يظنون ذلك صمودا، وقد كان ذلك خطأ وقلة حيلة، فلو أحسنوا -برأيي- لمالوا قليلاً حتى تمر المحنة وتسكن العاصفة، وليخرجوا بأقل الخسائر، وخصوصاً بعدما أدركوا بعد وقت وجهد أنهم لا يستطيعون شيئاً.
يقول العامة في مثلهم العامي البليغ "إن جالك الغصب خليه بجميله"، وهذا المثل يعني أنك إن رأيت أنك ستجبر حتماً على فعل شيء مرغماً لا خيار لك فيه، فأوهم من يرغموك أنك ترضى بذلك وتقبل به؛ حفظاً لماء وجهك، وتوفيراً لجهدك في مقاومتك لهم، والذي تعرف يقيناً أنه لن يجدي، ومحاولة منك لوضع بعض الشروط التي تستطيع وضعها للخروج بأقل الخسائر الممكنة وأكبر المكاسب الممكنة.
ليست الفضيلة في أن تثبت بمن معك في وجه الطوفان حتى تهلك وتهلكهم جميعاً، وإنما الفضيلة في أن تمكر لك ولمن معك حتى تمر وتمررهم معك من الطوفان دون غرق أو هلاك .
وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى، حتى تهيج، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها، لا يفيئها شيء، حتى يكون انجعافها مرة واحدة" (رواه مسلم).
هكذا يجب أن يكون حال المؤمن أمام الريح التي لا يستطيع أن يصمد لها، يجب عليه أن يميل لها حتى تمر، ثم ينعدل، وهكذا، حتى يهيج فلا تقدر عليه من بعد، وعلى المؤمن ألا يكون مثل الأرزة المجذية الثابتة المنتصبة أمام الريح، والتي لا تقدر لها، فتحطمها الريح مرة واحدة.
نجح الربيع العربي وإن كان قد فشل
الثورات العربية في الربيع العربي فشل أغلبها، لكنها ساعدت في نقل الوعي الشعبي العربي نقلة تاريخية، وما هو قادم لن يكون مثلما كان.
لتعد الشعوب إلى أماكنها أكثر وعياً، ولتستمر في مسيرتها من العمل السياسي والتوعوي، وتتأهب للحظة تاريخية قادمة لا محالة، ولا أقطع بحدوث ثورات أخرى، ولكني أقطع بحدوث تغيير لن يتأخر كثيراً، والقادم سيكون خيراً للشعوب بأي شكل كان، المهم ألا تنجر الشعوب في أية مرحلة من مراحل حلمها للعنف والسلاح، فلن تجني حينها إلا الدماء والدمار، وضياع الأحلام التي ستتحول إلى كوابيس لا آخر لها.
وعي الشعوب يزداد بشكل كبير، ومواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت فجّرت وعياً غير مسبوق، وأصبحت أكثر ما يؤرق الأنظمة القمعية، فإن مواقع التواصل أصبحت هي السلطة الرابعة، بعد أن مضى عصر الصحافة الورقية، وسقطت من مكانها كسلطة رابعة سابقة.
مواقع التواصل كصحافةٍ للمواطن أخذت مكان الصحافة الورقية، وأصبحت هي السلطة الرابعة الحقيقية، التي لن تنام ملء عيونها فزعا ورعبا منها السلطة الأولى (التنفيذية)، كرة الثلج بدأت في التكون والدحرجة، وستكبر يوما بعد يوم، ولن يقف أمامها شيء.