"إنا لله وإنا إليه راجعون" عبارة تنطقها ألسنتنا ونحن نضرب كفًا بكف والحزن يطيش بعقولنا وقد انفطرت القلوب أسى وألمًا، تنطق حروفها ألسنتنا وقد غيبت الغفلة عن بصيرتنا معانيها، فحُجُب الغفلة تحول بيننا وبين نور اليقين المتدفق من حقيقة هذه العبارة التي لو أوليناها وقتًا يسيرًا من التمعن والتفكر بحقيقة معناها لشفيت جروحنا وجبرت كسورنا بمدد يمددنا الله به من خلال "إنا لله وإنا إليه راجعون".
ولو تفكر المرء بهذه العبارة وهو ينطق بها عند نزول المصيبة لأدرك بل تيقن أنها تنطوي على حكمة جليلة؛ إذ أضعف ما يكون الإنسان في النوازل التي تصيبه على اختلاف أنواعها، والضعيف يحتاج لسند يستند إليه وقوة تنفث في روحه الثبات وقدرة التحمل ومواجهة كل ما يمر به من مصائب تترى تارة في النفس وأخرى في الأهل أو الأحبة، فأية مصيبة تصاب بها لا بد من مصدر قوة تستمد قوتك منه فلا تقهرك الخطوب ولا تعوقك العثرات والجراح، بل تمضي بقلب جسور ونفس راسخة لذا كان التوجيه الرباني: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
خطاب رباني مهيب يصف بل ويبشر أولئك الذين عرفوا وأدركوا أنهم ملك لله يتصرف بهم كيفما شاء؛ فقد جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أن "هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممْتَحنين؛ فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث والنشور، وأن الدنيا ليست آخر كل شيء"؛ فأن يعيش المصاب هذا الشعور في لحظات ضعفه ومصابه لهو سبب كاف لأن يمسح على قلبه المكلوم ويعزيه ويبث بل يبعث فيه الأمل في أشد لحظات الضعف والانكسار، فعلى ماذا تحزن وأنت ملك لله؟ وذاهب لله؟ محطتك النهائية ونهاية سعيك أنك إليه راجع حيث المستقر هناك، فهذا مصير الخلائق، خالقها هو مالكها المتصرف فيها كيفما شاء وإلى كنفه وملكوته الرجوع.
ثم انظر لحسن الجزاء على تسليمك بأنك عبد ومِلك لله، وتعزية نفسك والاستعانة على مصابك بيقين الرجوع لله، وتأمل عطايا الله لك على ذلك فقد ورد في تفسير هذه الآيات الكريمة: "ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال: {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، أي ثناء من الله عليهم، {وَرَحْمَةٌ} قال سعيد بن جبير: "أي: أمنة من العذاب" {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "نعم العدْلان ونعمت العلاوة" {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة".
أنت لله وإليه راجع، ولو تفكر الإنسان وهو في غربته كيف يعلل نفسه بالصبر وتحمل الأوجاع عندما يتذكر لحظة رجوعه لوطنه وأحبابه كم الطمأنينة والسعادة التي يشعر بها فيصبر على ما هو عليه، بل انظر إليه وهو يبحث عن الأقرب لروحه ونفسه إذا ما أراد أن يوكل له أمرًا من أموره المُهمّة حتى إذا وجده وثق واستراح، فكيف إذا كان مالك كل تفاصيل حياتك وأنفاسك منه المُبتدأ وإليه المُنتهى هو الأرحم بك من الأم بوليدها.
وتأمل حال سحرة فرعون عندما هددهم فرعون بتقطيع أرجلهم وأيديهم كيف كانت مصدر قوة وعزاء لهم في مواجهة جبروته، فقد قال تعالى على لسانهم: {قَالُوا لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، أي: "لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به {إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أي المرجع إلى الله، وهو لا ضير أجر من أحسن عملًا، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء"، فيقينهم بأنهم إليه راجعون كان ملاذهم من جبروت فرعون وشعور الاطمئنان الذي تملكهم بأنهم إلى الله منقلبون، فكيف يخشون بعد ذلك مصيرًا هو ملك لله وإلى الله؟
عبارة تذكرك معانيها في أحلك ظروفك أن ما أصابك من حر الفقد والألم أي كان قد سبقك إلى الله وأنت على أثره ولا بد من اللحاق به، فلم الأسى والجزع والقنوط والملتقى عند الملك؟
لا يضرك دمع العين وحزن القلب فهذه رحمة يلقيها الله في قلوب عباده ولكن لا تقل ولا تفعل إلا ما يرضي الله اقتداء بنبيك المبعوث رحمة للعالمين: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" (سنن أبي داوود)، لكن وأنت تسكب من معين الرحمة في قلبك لا تنس أن تستمد من معين القوة لتتوازن أمورك وتستقيم حياتك، وهل هناك أعظم من حقيقة أنّ ما نمر به ما هو إلا مدة يسيرة ومن ثم نرجع جميعًا إلى الله فيجتمع السابقون باللاحقين.
"إنا لله وإنا إليه راجعون" منهج تربوي وعلاج ناجع في علاج مصائبنا وأحزاننا ومداواة مرارة الفقد التي نتجرعها جرعة جرعة من كأس الحياة الذي لا ينضب من أكدار الدنيا وابتلاءاتها، علاج لن يتحقق أثره إلا أذا أخذناه بيقين سحرة فرعون فما ضرنا ما مسنا ما دام الملتقى عند الله مالك المُلك.
بل الرحمات الإلهية تتجلى بظلالها في "إنا لله وإنا إليه راجعون" وذلك كلما تذكرت مصابك وألمك واسترجعت بقولك إنا لله وإنا إليه راجعون جدد الله لك في عطاياه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها قال عباد قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها"(مسند أحمد بن حنبل).
فاشدد على قلبك وادفع حر المصائب تصيبك وتجلد تحت سياطها ولا تغرنك الدنيا وإقبالها عليك ولا تبطر في النعمة؛ فكل ذلك له نهاية وأجل وما هي إلا أيام معدودات والكل لله وإليه راجع وإن تفاوتت الآجال والأعمار فيلتقي الأحبة على اختلاف الأزمان بينهم وتجتمع الخصوم فيُقضى بينهم، فهي مدة يسيرة وإن بدت لنا طويلة ونرجع إليه بكل أحمالنا وأحوالنا، "إنا لله وإنا إليه راجعون" يتصبر به السائرون ويُروَّع به الجبابرة المتغطرسون، فلا سرور ولا نعيم دائم ولا كدر دائم ما دام هناك يوم نرجع فيه جميعنا إلى الله فلا تغتر ولا تبتئس فما أنت وكل ما تملك إلا عارية قد أعارك الله إياها ومتى شاء الله استرد عاريته فمثلما قبلت ورضيت بعاريته فلا تنكر حق الله في استردادها.