يكاد يكون مفهوم العلم الشرعي محبوسا على ما أخذ من النص مباشرة، من توحيد وتفسير وحديث وفقه، فجرت مناظرات عديدة بين أهل العلم في أي العلوم أفضل؟ فقال علماء العقيدة: أفضل العلوم ما تعلق بالله من حيث ما يجب له وما يجوز وما يستحيل في حقه سبحانه، وقال أهل الفقه: كل ما تعلق بفقه الحلال والحرام يكون الأفضل، وقال أهل الحديث: أفضل العلوم ما تعلق بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لأنه مبين لكلام الله، وفهم القرآن متوقف على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وقال أهل التفسير: أفضل العلوم ما تعلق بكلام الله وفهمه وإدراك دلالاته.
وفي نظري الكل على صواب، لأننا لو نظرنا إلى طبيعة العلم والوقوف على حده؛ لعلمنا أنه شامل للكل، والتكامل بين العلوم ضروري، فكل علم له صلة مباشرة بالآخر لا يستغني عنه، فعلم الفقه والأصول مثلا متوقف علي علم الحديث والتفسير والعقيدة، وكذا باقي العلوم، اللهم إلا من شأنه المتعلق بمعرفة الله وتوحيده وتنزيهه وعدم الشرك به؛ فهو الأصل الأول، والمقصد الذي من أجله كان الكون والخلق، ولا يمكن الاستغناء عن باقي العلوم، مع اعتبار الأفضل فيها علم العقيدة.
في هذه القضية -أفضلية العلوم -كتبت عشرات الكتب والمقالات، وعقدت مئات المناظرات، فكانت أقرب لضياع الأوقات، وغرس بعض الآفات، والأصل أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها تكلف نهى عنه الشرع.
وأما وصف العلم بالشرعية؛ فالمحققون على أنه حر طليق من كل قيد، سواء تعلق بالنص مباشرة أو لم يتعلق به، فحصر الشرعية في العقيدة والتفسير والحديث والفقه ممنوع ومحظور، بل سبب من أسباب تخلف الأمة وتراجعها وجمودها وكبوتها، إذ صرفت الأوقات كلها لهذه العلوم مع أهميتها، واستنفذت الطاقات فيها، وولى الشباب والباحثون وجوههم شطرها، أخذا بهذا التصور الضيق.
التصور الصحيح أن الشرعية لازمة لكل علم يحقق مصلحة ومنفعة للأمة، أو يدرأ عنها مفسدة الخمول والكسل والتسول، فمن المعلوم أن الشريعة قامت على رعاية مصالح الناس الدنيوية والأخروية، فكل علم لا يحقق مصلحة للشعوب فهو فضلة ونافلة، وبناء على ذلك فكل العلوم التي تحقق المصالح التي لا غنى عنها لها من الشرعية نصيب علي قدر ما تحقق من منفعة.
كم كان إمام الحرمين والنووي والإسنوي وغيرهم من الرشد والفقه لما قالوا: إن العلوم التي تحقق المصالح العامة دراستها وتعلمها أفضل من العلوم التي تحقق نفعا ذاتيا أو مصلحة شخصية وإن كانت معتبرة، وقالوا السعي في تحقيق فروض الكفايات أفضل من السعي في تحقيق فروض الأعيان، بناء على ما يتحقق منهما من مصالح ذاتية أو عامة.
وأراه نظرا صوابا للآتي:
أولا: القرآن الكريم فيه آلاف الآيات، وكذا أحاديث المصطفي -صلي الله عليه وسلم -التي تحث على النظر في الكون والسعي في الأرض والضرب فيها، من أجل الكسب والمعايش، فكل ما يقع من علوم تحت هذه الآيات فهو شرعي، إذ القرآن نادى به، وحث على التفكر فيه، وطلب منا التفوق في ذلك، حتى لا نكون عالة على الآخرين، فهل خلت سورة من سور القرآن -في الغالب -عن ذلك؟ اللهم لا، وإلا فما معنى التدبر للقرآن إن لم نعتبر ذلك شرعيا؟!
ثانيا: قوله تعالى: "...إنما يخشى الله من عباده العلماء ..." فاطر:28" وردت في سياق مختلف تماما عن حصر البعض لفظ الشرعية لِما أخذ من النص مباشرة، إذ الكلام جاء عن الماء وفوائده من إخراج النبات، والنبات يخرج الثمرات، والثمرات مختلف ألوانها، والجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها كذلك، وكذا الناس والدواب والأنعام، كل ذلك وما يتعلق به من علوم إنسانية أو تجريبية تعلمه والنظر فيه مما يجلب الخشية، ويثبت له كونه علما، والقائم بذلك يسمى عالما قطعا، فهل يستطيع الناس أن يحيوا بلا ماء أو نبات، أو جبال بما فيها من فوائد وثروات؟! لا تستطيع الشعوب والأمم أن تحيا وتعيش بلا ذلك، فالماء حياة الناس والدواب بل كل المخلوقات "... وجعلنا من الماء كل شيء حي ..."الأنبياء: 30" فكل علم تعلق بالماء من حيث استخراجه ونقاءه شرعي.
ثالثا: المسلمون الأوائل كانوا أفضل تصورا وفهما منا، فمنذ فجر الإسلام اهتم المسلمون بالعلوم الإنسانية والتجريبية والتطبيقية من كيماء وفيزياء وأحياء وطب وصيدلة وهندسة ومنطق وفلسفة، برعوا فيها حتى أخرجوا بها حضارة إنسانية عالمية علمت الدنيا كلها، وأبهرت الشرق والغرب، كل ذلك كان بعد إيمانها بالله، واعتزازها بدينه، وأخذها بالأسباب المادية لإقامة حياة إنسانية راقية في المطعم والملبس والمشرب والمركب والمسكن والتنقل، حياة جمعت بين الدين والدينا في أبهى صورة، وأجمل تعانق وتوافق.
رابعا: العلم في التصور الإسلامي حر وطليق، ليس محصورا ولا محدودا ولا مقهورا، كل ما هنالك أن يكون نافعا، فمن دعائه -صلى الله عليه وسلم -المشهور: " اللهم إني أسألك علما نافعا " هذا ضابطه الأوحد، وقانونه الأول، فإذا خرج عن النفع حتى وإن لم يكن ضارا فهو غير مطلوب ومرغوب، فكثير من الأشياء العلم بها لا ينفع، والجهل بها لا يضر، فلفظ الشرعية لازم لكل علم نافع.
خامسا: هذه المدنية الحديثة الجبارة، من الذي أنشأها؟ من الذي انتفع بها؟ قهرت من؟ أخذت عقول من؟ حضارة قامت على جهد وبحث وتجربة، أخذت من الكون بعض أسراره، فارتفعت على غيرها بحسن أخذها بالأسباب، صحيح إنها حضارة غدارة لم تؤسس علي تقوى من الله، فأبهرت العالم في شأن، وهدمت الإنسان والحياة في شؤون، حضارة عرجاء عوراء، فعلت كل ما هو منكر من الجانب الإنساني، وقدمت كل قبيح، فشوهت الخَلق والخُلق؛ لكنها بلا شك ارتقت في العلوم التجريبية والإنسانية فقدمت لشعوبها بعض المنافع، وغلبتنا وقهرتنا، لأننا للأسف تخلفنا في علوم الدين والدنيا معا، فلا دنيا أفلحنا وأبدعنا، ولا دين فقهنا وفهمنا.
العلم لابد أن يحرر حتى ينطلق بنا في فضاء الكون ويقدم لنا المصالح والمنافع الشرعية الواسعة المتعلقة بكل ما هو إنساني في السلم والحرب؟
وحتى ينطلق ركب الحضارة النافع لا بد من تحرير العلماء أيضا، فهم أهل الرفعة والشرف، والقدر والذكر، شهدوا على وحدانية رب البرية، أقامهم الله بعد وحيه وذكره، قال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه" وقال: "العلماء ورثة الأنبياء" هم الموقعون عن الله، فيما احتاج الناس من حل وعقد، أهل الحق والعدل، قال تعالى: "ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ..." سبأ: 6" والنور والهداية، قال سبحانه: "...وجعلنا له نورا يمشي به بين الناس ..."الأنعام: 122" أهل العلم أهل التقوي والمغفرة، لا يحصي أحد من الناس فضلهم، ولا يقف أحد بجوار شرفهم وعزهم، الله أعطاهم من علمه وكرمه، وفضلهم علي سائر خلقه، عزتهم منه، وقوتهم من جلاله وقوته، أناط بهم مهام عظيمة، وأعمال جليلة، ووظائف خطيرة، منها:
أولا: البيان والبلاغ عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -فيما نزل من وحي، إنه العهد والميثاق الذي بينكم وبين ربكم قال تعالى: "...لتبيننه للناس ولا تكتمونه ..." آل عمران: 187" وقال سبحانه: "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ..." الأحزاب: 39" وقال أيضا: "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ..." القصص: 80"
هذه مهمتكم الأولى، ووظيفتكم السامية، فكونوا أهلا لفضلها وكرمها وعزها وشرفها، تحرروا من الخوف، الذي يورث الكتمان للحق، ونبذه وراء الظهر، فتحل عليكم الله لعنة وغضبه ومقته وعذابه، قال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" البقرة: 159" هذا في الدنيا، أما الآخرة فقال سبحانه وتعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" البقرة: 174".
ثانيا: القدوة في الدعوة والحركة، والصبر وبذل الجهد، والجهاد والكفاح، وتقدم صفوف المقاومين للظلم والفساد والاستبداد، أسوة بنبيكم، وقدوة بحبيبكم، الغازي في سبيل الله، والمجاهد لإعلاء كلمة الله، لم يسبقه أحد في ضرب الظلم والظالمين، وأخذ الحق للمقهورين.
العلم ليس كتابة وبحث وتأليف فقط، إنما كتابة بالقلم والسيف، وبحث وتفتيش عن أبكار الأفكار، وقطع بالجهاد رقاب الكفار، وتأليف بين المختلفات وجمع بين المتشابهات، ورص للصفوف وجمع للقلوب، وحض على القتال، وتحريض ضد الفساد، إنها مهمة كبيرة وثقيلة، وراثة النبوة، والنبوة قوة وذكاء وصدق وبيان وجهاد وسنان، فطريق الجنة مفروش بالمكاره والآلام، تحرروا علماءنا من الكسل والدعة، والجبن والبخل، وموالاة الظلم وأهل الكفر.
الحرية فريضة العلماء، ودأب الشرفاء، ومقام الأوفياء، لا تتأخروا عن درب نبيكم، وفرش حبيبكم -صلى الله عليه وسلم -الذي قال له ربه: "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ..."الأنفال: 65" وقال عز من قال: "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ..." آل عمران: 146".
ثالثا: العمل في إطار العقل الجمعي المؤسسي، الذي يجمع ولا يفرق، وينظر في مشكلات الحاضر؛ فيجد لها الحلول المناسبة، ويستشرف المستقبل بآماله وطموحاته، التفكير الجمعي أصبح من لوازم الفرائض على العلماء، لمواجهة جمع الظلم والفجار والكفار، لقد أجمعوا كيدهم، ووحدوا أمرهم، فأصبحوا صفا واحدا، فغَلبوا واستعلوا وخربوا ودمروا، هذا حالهم وديدنهم، يحاربوننا بعقل جمعي، ومؤسسات بإمكانات رهيبة، وقديما قال سحرة فرعون: "فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى" طه: 64".
الإجماع في شريعتنا معتبر، ومصدر من مصادر التشريع، قطعي الدلالة إن كان صريحا قولا أو عملا، وفيه من الفوائد ما فيه، حتى إن لم يحصل الإجماع على المسالة، فبركة الاجتماع لها عظيمة ومفيدة.
تحرروا يا أهل العلم من الفردية والآنا والكبر، وأعرضوا منتجع عقولكم للرأي والمشورة، فالعالم مهما أوتي من فقه ودراية وخبرة، إلا إن نظرته في الغالب لموضوع النزاع تكون محدودة، ومن رؤية أحادية فردية، والموضوع في الغالب له زاويا متعددة، فإذا أحسن النظر من زاوية، خانه النظر من زاوية أخرى، ومن هنا تأتي أهمية التفكير الجمعي، الذي ينظر إلى جميع زوايا الموضوع، فيكوب أقرب إلى الحقيقة والصواب.
هذا مسلك علمائنا الكرام الذين سبقونا وتعلمنا منهم، إذا كتب أحدهم كتابا، يعرضه على مشايخه وأقرانه حتى على بعض تلامذته، فالشافعي عرض كتابه الأم على تلامذته أربعين مرة وقيل أكثر، وفي كل مرة يصوب خطأ فيه، نتيجة القراءة الجمعية.
في إطار العقل المؤسسي نتحرر من التسيس لصالح الممول والداعم للمؤسسة، ونحرر أنفسنا لدعوتنا وفكرتنا، أَحب من أَحب، وكره من كره، كم عندنا من مؤسسات عظيمة، لكنها مؤممة لصالح التنظيم أو الدولة المستضيفة، أو غير ذلك، وفي ظني أن نصر الله تعالي متوقف على حريتنا أولا لدعوتنا، وعبوديتنا لخالقنا، ومادامت المؤسسات العلمية تابعة لغير المصلحة العامة فلا نصر ولا تمكين.
رابعا: العزيمة العزيمة يا أهل العلم، وبالأخص في الوقوف أمام الظالمين، تحرروا سادتنا العلماء من الرخص في الجهاد والنزال والأوقات الصعاب، فإنها ليست لكم، في أوقات العسر مَنْ للعزائم إذا أخذ أهل العلم بالرخص، هذا نهج الأنبياء والصحابة الكرام والتابعين من أهل العلم والمعرفة.
ماذا لو أخذ أحمد بن حنبل بالرخصة وقت المحنة؟ لهانت الأمة في كبريائها، وطعنت في عزتها وشرفها، علماؤنا في السجون لرفعة الأمة، يدفعون دماءهم وأموالهم، إحياء لفريضة الجهاد بالنفس والمال، فالأمة في عزة بعلماء العزيمة لا الرخصة.
وأخيرا أقول: المهام كثيرة وثقيلة، وما ذكرته فيه إشارة وبعض كفاية، والآن أنادي علماء الأمة بالتوحد في مؤسسة جامعة، تكون حرة في قرارها، لا تنظر إلا لمصلحة الأمة، والأمة بحمد الله فيها آلاف العلماء الثقات، الذين لا يخشون في الله لومة لائم.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين