هل يتخيل أحدٌ أن لظاهرة #الزهد معارضين لا يقبلون بها ولا يؤيدونها، ومن هؤلاء المعارضين أكابر من علماء الأمة الأوائل، مثل الإمام ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ.
يقول في صيد الخاطر: "ولا نحفظ عن أحد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء، إلا أن يكون ذلك لعارض، فأما من دام على مخالفتها (يعني النفس) على الإطلاق، فإنه يُعمي قلبها ويُبلد خواطرها ويشتت عزائمها فيؤذيها أكثر مما ينفعها".
ويقول: "فالشهوة مريد ورائد، ونعم الباعث هي على مصلحة البدن، غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى، ومتى مُنعت ما تريد على الإطلاق.. عاد ذلك على النفس بالفساد ووهن الجسم واختلاف السقم الذي تتداعى به الجملة".
ويقول: "أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك، يشتهي ألا يتناول، وللنفس في هذا مكرٌ خفيّ"، ويقول: "لقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه، من إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق في تخشين الملبس"، ويقول: "بلغت صدقة علي -رضي الله عنه- أربعين ألفًا، وخلف ابن مسعود تسعين ألفًا، وكان الليث بن سعد يستغل كل سنة عشرين ألفًا" ، يقصد بذلك أن يذم الزهد في المال.
وعن ذم الزهد في النساء والشهوة فيهن يقول: "وإن أكثر من النكاح والسراري كان ممدوحًا لا مذمومًا، فقد كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- زوجات وسراري، وجمهور الصحابة كانوا على الإكثار من ذلك، وكان لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أربع حرائر وتسع عشرة أمةً، وتزوج ولده الحسن نحوًا من أربعمائة.. وقد قال ابن عباس: "خير هذه الأمة أكثرها نساءً" وكان يطأ جارية له وينزل في أخرى.
وعن ذم الزهد في المأكل يقول: "وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكل ما وجد، فإن وجد اللحم أكله، ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل"، ويقول: "في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يود أن يأكله كل يوم"، ويقول: قال أحمد بن حنبل: "أكره التقلل من الطعام، فإن قومًا ما فعلوه فعجزوا عن الفرائض".
وعن ذم الزهد في الملبس، يقول: "لبس النبي -صلى الله عليه وسلم- حلة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيرًا، وكان لتميم الداري حلة اشتريت بألف درهم".
وعن ذم السياحة في الأرض دون عمل وكسب وزوجة وأبناء يتحدث كثيرًا، وعن ذم التخوشن في الملبس إلى حد الضرر يتحدث كثيرًا، وعن ذم السير حافيًا وترك الطعام والشراب حتى يهن الجسد يتحدث كثيرًا.
فأما عن حديث الإمام ابن الجوزي عن السياحة دون عمل وزوجة وكسب -وهو ما سلكه بعض المتصوفة الزهاد الأوائل مثل بشر الحافي الذي تاب الله عليه وهو حاف فترك قصره ونعيمه ومضى يسير في البلاد حافيًا يعبد الله ويعتاش بما يجده من إحسان البعض- فهذا مما لا يخالف فيه أحدٌ الإمام ابن الجوزي، فلم يأمر الله به، ولم يندب إليه.
ولكننا لا نستطيع في الآن ذاته أن نؤثم من فعله، فنقول إن ما فعله بشر الحافي وأمثاله مخالف للشرع مغضب للرب، وهم آثمون عليه معذبون به، هذا ما لا يقول به عاقل ذو بصيرة ورأي.
إن هذه الحالة من الانقطاع التام عن الدنيا وشهواتها بالكلية، وترك الزواج والعمل والإنجاب، هو مما لم يأمر الله به ولم يندب إليه، لكنه مما لا يحرمه ولا يكرهه، بل يقبله إن كان خالصًا لوجهه، وكان مما لا يستطيع صاحبه له دفعًا، ومما تَغلّب عليه عن غير سعي له وركون إليه.
هي حالة تتلبس ببعض الناس وتسيطر عليهم، ممن يكونون غارقين في بحار المعصية والخطيئة، تجعلهم هذه الحالة يتحولون بالكلية إلى الضد، ويتطرفون في ترك الدنيا كما كانوا متطرفين في الانكباب عليها.
تشبه هذه الحالة الرهبانية التي كانت في النصارى الأقدمين، والتي أخبر الله أنها رهبانية ابتدعوها، وما كتبها الله عليهم، فلم يُرِد الله من خلقه عندما خلقهم أن يتركوا الحياة بالكلية، بل كان مراده منهم أن يعمروا الأرض ويسيروا فيها بالعمل والكسب، وأن يأخذوا من شهواتها ورغائبها، ولكن في حدود المسموح لهم به شرعًا، وما لا يشغلهم عن عبادة الله وذكره.
وعلى الرغم من أن الرهبانية ابتداعٌ بشري، إلا أنه سبحانه وتعالى قبلها ممن ابتدعوها، بل وأغضبه منهم أنهم لم يراعوها حق رعايتها، وهذه بالضبط هي الصورة المشابهة للتصوف الإسلامي الذي يعمد إلى الزهد التام، والانقطاع الكامل عن الحياة وشهواتها، ابتداعٌ بشري، لكنّ الله يقبله، فكيف لا يقبل من تَرَك كل شهوات الدنيا من أجل أن يتفرغ له.
يُذكّرني ذلك كذلك بمشهد آخر يزيد الصورة وضوحًا: في مسألة الصبر على قضاء الله والرضا به، نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى عند موت ابنه، في حين أن الفضيل بن عياض ضحك عند موت ابنه.
ويفسّر العلماء ذلك تفسيرًا بديعًا إذ يقولون: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أكمل البشر خُلقًا ونفسًا وقلبًا، وهو الذي يستطيع أن يجمع جمعًا تاما بين مقامي الرضا الكامل بقضاء الله والحزن على فراق الولد والحنين إليه.
في حين أن الفضيل لم يستطع ذلك الجمع التام، فَكَبَت حزنه على ولده وحنينه إليه، من أجل ألا يأخذ ذلك من صبره ورضاه ولا يُنقص منهما.
هذا هو ما يحدث في مسألتنا هذه؛ فهدي النبي هو أكمل هدي، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يترك الدنيا ورغباتها بالكلية، بل يأخذ منها، ولا يشغله ذلك بأي حال ولا بأية نسبة عن القرب من ربه والتفرغ لعبادته ورسالته.
فمن أراد أكمل الهدي فليهتد بنبيه -صلى الله عليه وسلم- ومن لم يستطع ذلك الجمع التام بين الدنيا والآخرة، ورأى أنه لن يتخلص لآخرته إلا بالانقطاع التام عن الدنيا، فحينها لا نستطيع أن نُؤثّمه، ولا أن نُخطئه، فقد ضعفت نفسه عن الجمع والموازنة، وهذه الحالة هي حالة نادرة، لا تكون إلا لأقل الناس وأندرهم.
أما عن حديث الإمام ابن الجوزي -عن ذم التقلل من الطعام والملبس والشهوة- فهو مما يستغرب منه، وهو الإمام الكبير المحقق؛ فلا يخفى على أحد أن التقلل من شهوات الدنيا هو مما ندب الشرع إليه، أما ترك الشهوات بالكلية إلى حد الضرر والعنت فليس مندوبًا، ولكن التقلل من الشهوات هو المندوب والمستحب.
إن شهوات الدنيا من طعام ونكاح ومال وضياع هي مما تشغل القلب عن التفرغ لله حبًا خالصًا مجردًا، وإذا انشغل القلب انشغلت الجوارح بشغله، فيكون التقصير في العبادة والتبتل.
لقد تكلم الكثيرون من علماء الأمة عن الزهد، وساقوا الأحاديث الكثيرة في بابه، حتى بات الزهد من المعلوم من روح الإسلام بالضرورة، ولا ينكره إلا راغب في شهوات الدنيا منكب عليها لا يريد أن ينصرف عنها، فيلوي لذلك النصوص والآراء لتساعده على بغيته.
ولا نحسب أن الإمام ابن الجوزي من هؤلاء، ولكنه الإمام المخلص المستبصر الذي قصر رأيه عن تلك المسألة، وكلام العلماء وتصنيفاتهم في الزهد والتقلل من شهوات الدنيا أكثر من أن تحصى، نسوق منها -على سبيل المثال- تبويب الإمام النووي في كتابه رياض الصالحين تحت عنوان (فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها)، وفي الباب الذي بعده تحت عنوان (فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات).
ولدينا عشرات الأحاديث والنصوص التي تؤكد على المعنى وتندب إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فيها" (رواه الترمذي)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "مر علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نعالج خصًا لنا فقال: ما هذا؟ فقلنا: قد وهي، فنحن نصلحه، فقال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك" (رواه أبو داود والترمذي).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أُكلات يقمن صلبه" (رواه الترمذي)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان" (رواه أبو داود)، والبذاذة كما شرحها النووي في كتابه: رثاثة الهيئة وترك فاخر الثياب.
كل كلام الإمام ابن الجوزي عن المبالغة في الترك كلام لا يختلف عليه اثنان، فالمبالغة في الترك تلحق المضرة بالجسد والروح، أما كلامه الذي يفهم منه إنكاره مجرد التقلل من الشهوات فهو مما يستغرب منه كما قلنا.
وكلام الإمام أحمد الذي نقله الإمام ابن الجوزي والذي يذم فيه التقلل من الطعام لأنه يضعف الجسد عن القيام بالفرائض، هو كلام يُحمل على أنه يتحدث عن أولئك الذين يضعفهم التقلل من الطعام عن القيام بالعبادة.
كل إنسان بصير بنفسه وبما يصلحها وما يضرها، فمن وجد أن أخذه بحظه من شهوات الدنيا لا يضعفه ولا يشغله عن عبادة ربه، فلا ضير عليه أن يأخذ من الشهوات، ومن وجد أنه يضعفه ويقعده فليتخفف منها ما استطاع، ولا يأخذ منها إلا ما يكون ضروريًا، ومن وجد أنه لن يستطيع أن يوازن بين شهوات الدنيا وحق الله عليه، إلا بالانقطاع التام عن الدنيا، وغلبته نفسه على ذلك، لا نستطيع أن نؤثمه ولا أن نجرمه، ومن وجد أن تقلله من الشهوات هو الذي يضعفه عن الفرائض والعبادات، فليس عليه أن يتقلل.
ولكن تبقى القاعدة العامة التي خُلق وبُرئ عليها أغلب الناس، وهي أن الزهد والتقلل من الشهوات هو مما يعين على التفرغ لله حبًا وعبادةً وذكرًا، وترك النفس لتأخذ من شهواتها متى أرادت وكيفما أرادت، هو مما يفسد النفس ولا يصلحها.