إن الصراع بين الحق والباطل موجود منذ أن خلق الله تعالى الأرض ومن عليها، وسيظل موجوداً إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
أولاً: توضيح لمفردات عنوان الموضوع
بداية وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع لابد أن نمهِّد لحديثنا بفك رموز العنوان حتى لا تلتبس علينا الأمور وحتى لا نُسيء فهم المقصود.
الصبر: هو حبس النفس عن مقابلة القول بمثله، والفعل بمثله، التزاماً بضوابط الشرع ومقتضيات العقل وطبيعة الموقف.
استراتيجية: فن وعلم وَضْع الخُطط طويلة المدى ببراعة، في ضوء الإلمام الشامل والكامل بالإمكانيات والفرص والتحديات.
الصبر الاستراتيجي: التريث والتعقل في ردود الأفعال مع حسن الإعداد ودوام الجاهزية للمواجهة في الوقت المناسب لتحقيق الهدف الذي سبق التخطيط له بدقة.
الذكاء: نشاط فكريّ ومعرفيّ وإدراكي وتفاعلي يقوم به العقل، وهو قائم على السرعة في الفهم، والقدرة على التحليل والاستنباط.
التكتيك: هو تكييف الخطة الموضوعة، بأسلوب إبداعي وغير تقليدي يتناسب مع المُستجدات. والتكتيك قد يكون جزء من الخطة أو طارئ عليها.
الذكاء التكتيكي: القدرة على قراءة المشهد بكل تفاصيله وتطويعه لخدمة الهدف.
ثانياً: من ثوابت الصراع بين الحق والباطل
1- قال تعالى: {... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: من الآية 251].
إن سنة الله تعالى في جولات الصراع بين الحق والباطل أنها سِجال، وفي تدافع مستمر .
إن الحق لو ظل في نصر وتمكين دائمين قد يؤدي به ذلك إلى البَطر، ونسيان المُنعم، وكفر النِّعمة، وهنا ستفسد الأرض.
وإن الباطل لو ظل في نصر وتمكين دائمين سيؤدي به ذلك إلى الغلو في باطله، والتجبر على الخلق، والقضاء على كل صوت للحق، وهنا ستفسد الأرض أيضاً.
2- قال تعالى: {... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}" {الحج: من الآية: 40}.
إن سنة التدافع المراد بها أن الله تعالى يدفع العباد بعضهم ببعض، صالحهم وطالحهم، ومصلحهم ومفسدهم، من أجل مصلحة عظيمة وهي ألا يطغى بعض العباد على بعض فيقع الفساد الذي به تتعطل الغاية التي خلق الله تعالى العباد من أجلها وهي العبادة والاستخلاف في الأرض.
3- قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 104].
من الثوابت الأساسية في الصراع بين الحق والباطل أن الألم يصيب الجميع وإن اختلفت أشكاله ومظاهره .4- لقد جرت سنة الله تعالى أن الصراع بين الحق والباطل يشحذ همَّة أهل الحق، ويزيدهم إيماناً بربهم ثم بقضيتهم، ويقوِّي شوكتهم، فتظل راية الحق مرفوعة مهما علا سلطان الباطل ومهما أوغل الباطل في بطشه وتجبره.
يقول الخطيب الإدريسي: "إنَّ الإسلام إذا حاربوه اشتدّ، وإذا تركوه امتدّ، والله بالمرصاد لمن يصدّ، وهو غنيّ عمَّن يرتدّ، وبأسه عن المجرمين لا يُردّ، وإن كان العدوّ قد أعدّ فإنَّ الله لا يعجزه أحد، فجدِّد الإيمان جدِّد، ووحِّد الله وحِّد، وسدِّد الصّفوف سدِّد".
5- قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3].
إن سنة الله تعالى في التمكين لدينه ونصرة أوليائه الذين يحاربون تحت لوائه أن هذا التمكين له ضريبة لابد أن تؤدى، وكيل لابد أن يُوفى.
إن هذه الضريبة -بعد سلامة العقيدة وقوة الإيمان- تتمثل في الإعداد المستمر، والجاهزية الدائمة، والأخذ بكل أسباب النصر التي أقرَّها الشرع، وأن أي تقصير في ذلك معناه الحرمان من التمكين لأن الله تعالى لا يرضى أن يكون المؤمنين بدينه وحملة لوائه كسالى مُتواكلين.
ثالثاً: الصبر الاستراتيجي والذكاء التكتيكي أهم مقومات النجاح
إن الصبر الاستراتيجي والذكاء التكتيكي كجناحي الطائر لأي مواجهة، وإن شئت فقل أنهما مثل العقل والقلب بالنسبة للجسد.
إن الصبر الاستراتيجي هو الصبر على ما بُذِل وما يُبذل وما سيُبذل من أسباب حتى تنضج وتأتي ثمارها بإذن ربها.
إن الصبر الاستراتيجي يتمثل في التريث الذي يلازمه الإعداد والتأهب، فهو انتظار واعٍ لا ينشغل صاحبه عن الهدف بغيره، ولا ينساه، ولا يُستدرج لمعارك جانبية تشغله عن هدفه، حتى لو كان النجاح في هذه المعارك الجانبية مضموناً.
بهذا الفهم يكون هناك تقدمٌ للأمام، حتى ولو كان تقدماً بطيئاً، ويقترب تحقيق الهدف يوماً بعد يوم، هنا يزداد صاحب الحق تمسكاً بهدفه فلا يمكن لقوة مهما كانت أن تثنيه عن الوصول للهدف.
إن الصبر الاستراتيجي يتمثل في التريث الذي يلازمه الإعداد والتأهب، فهو انتظار واعٍ لا ينشغل صاحبه عن الهدف بغيره، ولا ينساه، ولا يُستدرج لمعارك جانبية تشغله عن هدفه، حتى لو كان النجاح في هذه المعارك الجانبية مضموناً
يقول الشيخ أحمد ياسين رحمه الله: "القوي مها كان قوياً فإن فيه نقطة ضعف، والضعيف مهما كان ضعيفاً فإن فيه نقطة قوة، فإذا التقت نقطة القوة عند الضعيف بنقطة الضعف عند القوي، انتصر الحق على الباطل".
إن الصبر الاستراتيجي لابد أن يلازمه الذكاء التكتيكي ملازمة السوار للمِعْصَم.
إن الذكاء التكتيكي يتمثل في وضع الخطة المناسبة، والعمل على تطويع الظروف المعوقة لها، وتحديد آلية ومراحل تنفيذها.
إن مقياس نجاح الصبر الاستراتيجي يتمثل في قلة حدة المعوقات والتحديات التي كانت موجودة منذ بداية الصراع ، هنا يكون الصبر الاستراتيجي قد أتى بعض ثماره، وأن الوقت جزء من العلاج، وأن المطلوب هو مزيد من الصبر لأن اتخاذ قرار المواجهة والوضع كذلك قد يجعل الباطل يُعيد حساباته ويرتب أوراقه وينتبه لسلبياته.أما إذا كان هناك زيادة في قوة الباطل وكثرة أتباعه واتساع نفوذه، فإنه لا مفر من المواجهة مهما كلف ذلك أهل الحق من جهد ومن تضحيات، لأن عامل الوقت ليس في صالح الحق وأن الصبر هنا ستكون تكلفته أصعب وأشد ألماً.
إن من يُجهد نفسه لكي يتجنب مرحلة المواجهة ظناً منه أن المواجهة تكبده من التضحيات ما لا قِبل له بها وأنه يمكنه أن يتجنب هذه التضحيات بالموالاة والمداهنة وغير ذلك، فإن سنن السابقين أثبتت أن ضريبة المواجهة أقل بكثير من ضريبة الرضوخ للظلم واستمراء الذل .
إن عوامل نجاح الصبر الاستراتيجي والذكاء التكتيكي تتمثل في الرصد الدقيق للمستجدات الذي يصحبه مرونة في التخطيط، إما بتحقيق المزيد من المنافع أو بتلاشي المزيد من الضرر، مع عدم التنازل عن الهدف الأساسي.
وخلاصة القول أنه يمكننا أن نقول أن الصبر الغير مقترن بالعمل يعتبر موقفاً سلبياً يؤدي إلى تزييف الوعي، وخلط المفاهيم، والحاق الضرر بالصابرين أنفسهم. وأن الحركة التي تسير دون رؤية ومرجعية هي حركة فوضوية لا يُعوَّل عليها لأنها خبط عشواء وأنها تضر ولا تنفع.
الصبر الغير مقترن بالعمل يعتبر موقفاً سلبياً يؤدي إلى تزييف الوعي، وخلط المفاهيم، والحاق الضرر بالصابرين أنفسهم
رابعاً: من نماذج الصبر الاستراتيجي والذكاء التكتيكي
1- الصبر الاستراتيجي على بقاء الأصنام حول الكعبة
لقد بلغ من صبر النبي ﷺ أنه ترك الأصنام حول الكعبة ولم يفكر في تحطيمها ولم يحرِّض يوماً على كسرها، لأن النبي ﷺ كان شغله الشاغل هو تحطيم أصنام القلوب وهدم أكواخ العقيدة الفاسدة الباطلة، حينها ستنهال معاول الحق على الأصنام الموجودة حول الكعبة فتبيدها في الحال، وهذا ما تم بالفعل في فتح مكة عام 8 هـ أي بعد البعثة بعشرين عاماً.
2- الصبر الاستراتيجي والذكاء التكتيكي في صلح الحديبية
لقد شهد صلح الحديبية تعنتاً كبيراً من جانب المشركين حيث اعترضوا على مُعظم تفاصيله بداية من اعتراضهم على كتابة "بسم الله الرحمن الرحيم" في صدر صحيفة الصلح وطلبهم كتابة "باسمك اللهم" بدلاً منها.
وبلغ استفزاز المشركين للمسلمين مبلغه مما اضطر الصديق أبو بكر رضي الله عنه -وهو الهين اللين السمح الحليم- أن يقول لعروة بن مسعود "امْصُصْ ببَظْرِ اللَّاتِ" وذلك عندما قال عروة للنبي ﷺ: "فإنِّي واللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وإنِّي لَأَرَى أوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أنْ يَفِرُّوا ويَدَعُوكَ"، وغير ذلك من المناوشات والاستفزازات التي واجهها النبي ﷺ ببالغ الصبر وقمة الحكمة مما جعل صلح الحديبية الركيزة الأساسية لفتح مكة.
3- الذكاء التكتيكي لخالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة
إن ما فعله القائد خالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة مازال يُدَرَّس في الجامعات العسكرية والخطط الحربية إلى يومنا هذا، ولما لا، وهو الذي استطاع بفضل الله تعالى ثم بفضل حنكته العسكرية أن يُخلِّص جيش المسلمين الذي يبلغ عدد جنوده ثلاثة آلاف مُقاتل من بين براثن جيش الروم الذي بلغ عدد جنوده أكثر من مائتي ألف مقاتل.
4- الذكاء التكتيكي للسلطان العثماني سليمان القانوني
كان للدولة العثمانية إمبراطورية عظيمة تهابها كل دول أوروبا، لذلك لم تقو دولة أوروبية واحدة على مواجهتها بمفردها.
في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني -حفيد السلطان محمد الفاتح- كانت هولندا تتعرض للغزو الإسباني، وقد أرسلت هولندا تطلب الدعم من السلطان سليمان القانوني. وتوسلوا إليه أن يبعث بكتيبة من الجيش العثماني لتساعدهم في حربهم ضد الأسبان.
أرسل السلطان العثماني للهولنديين عشرات البدل العسكرية من زي الجيش الانكشاري العثماني وقال لهم البسوا هذه الملابس في ساحه القتال، هنا خاف الإسبان وتوقفت الاعتداءات لأنهم ظنوا أن الجيش العثماني يحارب مع الهولنديين.
هنا تبرز أهمية الذكاء التكتيكي الذي يوفر الجهد ويُحقق الهدف.
وأخيراً
عن أبي ميمون، قال: "إن للصبر شروطًا، قلت -الراوي-: ما هي يا أبا ميمون؟ قال: إن من شروط الصبر أن تعرف كيف تصبر؟ ولمن تصبر؟ وما تريد بصبرك؟ وتحتسب في ذلك وتحسن النية فيه، لعلك أن يخلص لك صبرك، وإلا فإنما أنت بمنزلة البهيمة نزل بها البلاء فاضطربت لذلك، ثم هدأ فهدأت، فلا هي عقلت ما نزل بها فاحتسبت وصبرت، ولا هي صبرت، ولا هي عرفت النعمة حين هدأ ما بها، فحمدت الله على ذلك وشكرت".