الأزمات والظروف بل المواقف اليومية التي نعيشها عادة ما تعبر عن شخوصنا وأفكارنا ومبادئنا، فحتى تلك الآراء المندفعة والسلوكيات التي نظنها عابرة إنما هي حقيقة تسفر عن دواخلنا ونمط تفكيرنا واعتقادنا، وقد ندّعي إيماننا بفكرة ما أو ننادي بتطبيق مبدأ معين سنوات طوال من العمر لنتفاجأ مع أول اختبار مهما صغر بأننا نبعد كل البعد حقيقة عما ندعي ونزعم!
ولا عجب من ذلك فبالقدر الذي تؤمن به بما تدعي حقيقة وتعمل على ترسيخها يكون التزامك وترجمتك لها عمليا على أرض الواقع حتى في أحلك الظروف مع ضرورة الانتباه أن الإيمان بها لا يكون برفع شعارات وتنميق عبارات في جلسات حوارية ترتب لها مناخاً معيناً من الرفاهية وأنت تتناول كأسك المفضل من قهوة أو شاي أو أي كان، وإنما الإيمان بالمبدأ والفكرة عندما ترويها من دقائق عمرك وحبيبات نفسك وأنت تجاهد نفسك لتتخلق بها وتضبط سلوكك وفكرك على أصولها، ولو كنت وحيدا بلا نصير أو رفيق والتيار يعاكسك بأمواجه والأحبة والرفقاء ينادونك ما هي إلا حياة واحدة فعشها بطولها وعرضها.
ما سبق كان نتيجة للتأمل في الفجوة بين أفعال الناس وأقوالهم والتي أسفرت عنها الأزمة التي يمر بها العالم اليوم والبون الشاسع الذي ظهر بين الادعاء والاتباع، وأكثر ما يظهر هذا عندما نقف على مفترق طرق وعلينا أن نختار بينها بين الجاه والغنى غير المشروع وبين ستر الحال وخمول الذكر بين الناس، بين التميز في الوظيفة أو الشهادة الدراسية بطرق ملتوية وبين أن تكون عادياً أو حتى متفوقاً ولكن بلا تنازلات، ويزيد من صعوبة موقفك عندما تجد الأغلبية يحرصون على التميّز في هذه الفانية والحصول على الجاه والمنصب والمركز والمال بشتى الطرق والوسائل بحجة أن العمر طويل وما زال أمامك متسع لتستغفر وتتوب من زلة وقعت بها أو لقمة عيش أخذتها على غير وجه أو تقدير بدراسة أو وظيفة حصلت عليها بالغش والخداع.
وهنا قفز إلى ذهني عبارة الأعرابية وهي ترد على أمها التي تطالبها بمزج الحليب بالماء إذ لا بأس بذلك ما دام الوالي أو الخليفة لا يراهم فكان الإيمان الحقيقي بالفكرة والمعتقد يرد رداً قاطعاً لا تهاود فيه غير آبه بالكم المادي الذي سيعود به خلط الماء بالحليب: "إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا"، فكثير منا من تأخذ الدنيا بمجامع قلبه وتلابيب روحه فيسعى لينال الحظ الأكبر منها فينتهج نهج الآمرة بخلط الحليب وقلة هم الذين شعارهم "الله يرانا" .
ثم انظر لقليل الخمر كيف تحرمه الشريعة السمحاء ما دام كثيره يسكر، وعلى هذا وذاك قس أمورك واضبطها، فقد يتملكك العجب من طالب يقدم على الغش في امتحانات تعتمدها الجامعات بصفة ما نتيجة ما نمر به من ظروف وإن عاتبته أو لفت انتباهه لحرمة ما يفعل يتذرع بأن الجميع يفعل ذلك أو يتحجج أنه لا نظام مراقبة تضعه الجامعة، وكم من موظف كان الخداع والتدليس سلوكه لينال تقديرا يصبو إليه من مسؤول يعلوه، وكم ساعات من العمل استنزفت في أمورنا الشخصية بحجج واهية، وكم منافع استخدمناها في مصالحنا الشخصية بغير وجه حق، والقاسم المشترك بين كل هذه الأمور التي ذكرت وغيرها الكثير مما لم يذكر والدافع من خلفها حبنا للدنيا وتنافسنا فيها وتكالبنا عليها وغفلتنا الدائمة عن حقيقتها بأنها وسيلة لا غاية ودار عبور لا دار قرار وأن المتنافسين عليها هم صرعى على عتباتها خسروا دنياهم وآخرتهم وخرجوا صفر اليدين.
فالمعيار الحقيقي في حياتنا إنما هو ما يحبه الله ويرضاه وإن كان عائده المالي قليلاً ، ولك حرية أن تطمح وتصبو وتتأمل وتحلم بمركز وتقدير معين لكن اتبع السبل المشروعة ولا يثبطنك سبل الغير الملتوية فغايتك تختلف تمام الاختلاف عن غايتهم، وإياك أن يخدعوك بأن قليلاً من السم في الدسم لا يضر، وتذكر أن القليل بالتراكم يكثر فسيغلب السم الدسم يوماً ما لا محالة، وأن الدنيا مثل الماء المالح كلما شربت منه ازددت عطشاً ولن يكفي ابن آدم ولن يملأ جوفه إلا التراب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب" (رواه البخاري).فلا يشغلك طلب الدنيا عن طلب الآخرة، ولا تبهرك القصور فنهاية المطاف قبر لا يتسع إلا لجسدك في كفنه بلا زيادة، ولا يعمي بصيرتك بريق الذهب والفضة فستخرج من الدنيا بكفن لا جيوب له وتترك مالك الذي أضعت عمرك في جمعه، ويتقاسمه الورثة وتحاسب أنت عنه، ولا تخدعنك المناصب فالكل عند الله سواسية وانظر لهامان وقارون وفرعون ما أغنت عنهم مناصبهم وأموالهم من الله شيئا، ويصف الله حال الذين خطف بريق المال والجاه نور بصائرهم في كتابه الكريم: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82].
والزم باب مولاك فلا يؤخذ ما عند الله بالمعاصي: "نفث روح القدس في روعي أن نفسا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته" (رواه الطبراني في المعجم الكبير)، واحذر أن تدخل في دائرة من قال الله فيهم: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء:18].