إن الثبات على الحق هو غاية كل نفس مُخلصة، ومُبتغى كل إنسان ينشد القبول ويتطلع إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وللثبات أهمية كبيرة في التمكين للدعوات وانتشارها واستمرارها؛ فالثبات أخو الصبر، وصَنْو الطمأنينة، وحليف اليقين، وتوأم الثقة بنصر الله تعالى .
إن #الثبات يتنافى مع اليأس والإحباط، ويتنافى كذلك مع العجلة والتهور، كما أن الثابتين لا يُداهنون ولا يتلونون ولا يرضون بأنصاف الحلول، والثبات لا يعني استمراء الذل والمهانة، ولا يعني التكلس والجمود، ولكن الثبات يعني التمسك بالمبدأ، وتطوير الوسائل، واستفراغ الجهد، وشحذ الهمم، وإيقاظ العزائم، واستغلال كل الفرص والإمكانات، والتربص إلى أن تأتي الفرصة المناسبة لتحقيق الهدف، فالثابت على الحق كالصقر الذي يتريث ويتربص ثم ينقض على هدفه فلا يُخطئه.
يقول الإمام البنا -رحمه الله- في تعريف الثبات: "وأريد بالثبات: أن يظل الأخ عاملاً مُجاهداً في سبيل غايته مهما بعُدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين، فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية".
إن من أهم مزايا الثبات أنه ينفي الخبث ويُخلِّص الصف المسلم من أصحاب النَّفَس القصير والعزيمة الخائرة والنوايا المعلولة، وما جيش طالوت عنا بخفي.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
إن من أهم مزايا الثبات أنه ينفي الخبث ويُخلِّص الصف المسلم من أصحاب النَّفَس القصير والعزيمة الخائرة والنوايا المعلولة
أولاً/ ذكر الثبات في القرآن الكريم
لقد ذكر الثبات في آيات عديدة من القرآن الكريم، نذكر بعضها للدلالة على حقيقته وأهميته.
1. الثبات من الله تعالى وحده لا يستطيع الثباتَ بشر دون عون من الله ومدد.
قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]
وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]
وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74]
2. عوامل الثبات بيد الله وحده وقد يجعلها فيما لا يخطر على قلب بشر.
قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]
3. الثبات أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال:45]
4. الثبات مطلب المجاهدين الصادقين من الله تعالى.
قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]
5. دراسة سير السابقين من المُعينات على الثبات.
قال تعالى: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]
6. التمسك بما جاء في القرآن الكريم من المُعينات على الثبات.
قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102]
قال تعالى: {... وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:من الآية 66]
7. فعل الطاعات من المُعينات على الثبات.
قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265]
8. القيام بتبعات الدعوة ومتطلبات الجهاد من المُعينات على الثبات.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]
9. الذنوب والمعاصي من أسباب الانتكاس وتنكب طريق الثبات.
قال تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94]
10. الظلم من أقبح الذنوب ومن أوائل أسباب الانتكاس وتنكب طريق الثبات.
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]
ثانياً/ ذكر الثبات في السنة النبوية المطهرة
لقد كان من دعاء النبي ﷺ في صلاته: "اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُك الثَّباتَ في الأمرِ" (صحيح ابن حبان)، قال ابن العربي: "أي الدوام على الدين ولزوم الاستقامة عليه".
إذا كان الدوام على الدين ولزوم الاستقامة عليه من أهم ما يجب على المسلم الاهتمام به والحرص عليه فإن المتصدرين لأمر الدعوة أحوج ما يكونون إلى ذلك؛ لأن طبيعة الطريق وما فيه من عقبات ومَلمَّات وما يلزمه من صبر وتضحيات يحتاج إلى أصحاب الإيمان القوي والعزم الفتي والفهم الجلي واليقين الثابت.
إن طبيعة الطريق وما فيه من عقبات ومَلمَّات وما يلزمه من صبر وتضحيات يحتاج إلى أصحاب الإيمان القوي والعزم الفتي والفهم الجلي واليقين الثابت
1. عن شهر بن حوشب - رضي الله عنه - قال: "قُلتُ لأمِّ سلمةَ: يا أمَّ المؤمنينَ ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ ﷺ إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرَ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ. فتلا معاذٌ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا" (رواه الترمذي).
2. عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كانَت يمينُ رسولِ اللَّهِ ﷺ الَّتي يَحلِفُ بِها: لا! ومصرِّفِ القلوبِ" (رواه النسائي).
3. عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "يا شدَّادُ بنُ أوسٍ! إذا رأيتَ النَّاسَ قد اكتنزوا الذَّهبَ والفضَّةَ؛ فاكنِز هؤلاء الكلماتِ: اللَّهمَّ! إنِّي أسألُك الثَّباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرُّشدِ..." (السلسلة الصحيحة).
ثالثاً/ نموذج من ثبات أهل الباطل.
سبق لنا أن تحدثنا بالتفصيل عن نماذج من ثبات أهل الحق، وذلك في موضوع بعنوان كيف تعرف أنك من أصحاب المبادئ؟ والآن نتحدث عن ثبات أهل الباطل على باطلهم.
إن أهل الباطل يتمسكون بباطلهم ويثبتون على ذلك ويتواصون فيما بينهم بالصبر على ما يعتنقون من باطل .قال تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6].
جاء في كتاب (السيرة النبوية) لابن هشام: "قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة، ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله؛ قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت".
إن هذا الموقف يبين لنا أن أعداء الإسلام يعيشون بقلب حُيي بن أخطب في أبدان تدعي التسامح وتدعو إلى التعايش، ولكن تأتي المواقف فتعريهم وتظهر زيف ادعاءاتهم وتخرج أضغان قلوبهم.
رابعاً/ عوامل توهن من عزم الدعاة وتمنع الثبات
هناك عوامل تفت في عضد الدعاة وتوهِن من عزمهم وتمنعهم من الثبات، نوجزها فيما يلي:
1. عدم استحضار نية وثواب الثبات.
2. ضعف التربية الإيمانية، واختلاق الأعذار والمبررات.
3. جلد الذات، وتقريع الثقات.
4. تضخيم الهفوات، والتأثر بالشائعات.
5. عدم إقالة العثرات، ولا الاعتبار بما فات.
6. عدم استفراغ الجهد، وإهدار الطاقات.
7. الاستدراج لسفاسف الأمور والتفاهات.
8. جمود الفكر في التعامل مع الصعوبات والتحديات.
خامساً/ مُعينات على طريق الثبات
إن الطريق إلى الله تعالى ليس مُعبَّداً سَهلاً وليس مفروشاً بالورود والرياحين ولكنه كثير العقبات والمَلمات ، ولكي نضمن الثبات على طريق الحق فإن هناك من الأمور التي لا غِنى عنها، نوجزها فيما يلي:1. أحسنوا النيات، ووثقوا الأخوة، وقووا العلاقات.
2. وقروا أصحاب الفضل والمقامات.
3. ثقوا بأنفسكم، وإياكم من جلد الذات.
4. تجردوا لغايتكم، تبلغوا الآمال وتحققوا الطموحات.
5. ضحوا بالغالي والنفيس، وفروا من المثبطات.
6. تغافلوا عن الهنات والزلات غير المُهلكات.
7. إياكم والتناجي، واجتنبوا تضخيم الهفوات.
8. التزموا بالشورى في اتخاذ القرارات.
9. فوضوا في بعض أموركم الثقات.
10. احرصوا على توريث مبادئكم بلا آفات.
وأخيراً أقول
إن الدعاة المخلصين الصابرين الثابتين هم أوتاد الأرض وعُمُد الدعوات ومفاتيح الخير ومغاليق الشر ، يفزع الناس إليهم عند حدوث الفتن وتعاقب الشبهات وانتشار الشهوات فيحتمون بهم كي لا تنشب الفتن فيهم أظفارها، ولا تنال الشبهات والشهوات من عقولهم ولا من قلوبهم فيهلكون.وأقول
إن كل الشواهد -عبر تاريخ الأمم وسِيَر الأنبياء والصالحين وكل من سار على دربهم إلى يومنا هذا- تشير إلى أن عاقبة الثبات خيراً، وأن الله تعالى يجعل من الرفعة والذكر الحسن للثابتين ما لا يجعله لغيرهم من أصحاب الأهواء ومن الملوك والسلاطين.