الصياد الماهر هو الذي يجيد استدراج صيده حيث مكان شباكه، فتجده يلقي بذوراً هنا وهناك، ومما رأيته في صغري أن الطعم الذي يكون بقلب المصيدة لا بد أن يكون لامعاً ساطعاً براقاً إما بحركته أو برائحته أو بلونه، فهي إذا عملية مدروسة تقوم على وضع أطعمة أو ما شابه تكون من مفضلات أو مرغوبات الفريسة حول المصيدة أو الشباك لتقودها لقلب المصيدة بشيء لن تستطيع مقاومته عندما تصبح على مقربة منه وقلة قليلة من تسطيع الهروب ولكن بعد أن تكون قد أثخنت بالجراح.
وما أشبه حال الفريسة هذه بحالنا مع الشيطان، غير أن من عادة الصيادين الاصطياد كسبيل من سبل الحياة وتوفير لقمة العيش، أما حالنا مع الشيطان فيتمثل يكونه يصطاد لا ليقتات وإنما ليشبع العداوة والبغضاء التي ناصبنا إياهما منذ أن جاءه أمر الإله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، والمتتبع لآي القرآن الحكيم يجد أن الله سبحانه وتعالى يحذرنا من خطوات، فالأمر إذن مدروس بحنكة ومصمم بدهاء لتكون خطوة إثر خطوة في طريق الانحطاط والسقوط والانحراف عن جادة الطريق.
وقد جاء النهي عن اتباع خطوات الشيطان في عدة مواضع المتأمل فيها يجد أنها اشتركت في النهي عن اتباع الخطوات وليس الشيطان نفسه، وهي من أهم مجالات قد يكون الإنسان فيها عرضة للانحراف والانزلاق، وفيما يلي بيان مواضع ورود هذا النهي:
1- في معرض الكلام عن الأطعمة والأشربة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة:168] وقوله تعالى:{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأنعام:142] حيث ورد في تفسير الآيتين الكريمتين أنّ الله شرع للعباد من المأكول ما هو طيب غير ضار في العقول والأبدان ونهاهم أن يسلكوا طرائق الشيطان وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء عليه سبحانه وتعالى.
ثم إن الأطعمة لها تأثير على قوة الإنسان البدنية والخُلقية وفي طبائع البشرية، لذا ليس من العجب أن يهتم القرآن الكريم بمأكولاتنا ومشروباتنا والتي هي قوام أبداننا والتي هي بدورها مطية الروح وراحلتها في طريق سعيها إلى الله ، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ يا رَبِّ يا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (رواه مسلم). ولما لشهوة البطن من سطوة إذ قد لا يصبر على الجوع من يصبر على أشد الأمراض وأعتاها، فتجد الشيطان يزيّن لنا بعض المأكولات والمشروبات استدراجا للتعالي على أوامر الله واختراقها وتمهيداً لما بعدها من أمور جلل، فقد روى النسائي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث عن أبيه قال سمعت عثمان رضي الله عنه يقول: "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له إنا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذه الخمرة كأسا أو تقتل هذا الغلام! قال: فاسقيني من هذا الخمر كأسا، فسقته كأسا. قال: زيدوني! فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه" (رواه النسائي) فكان لا بد من ضابط شرعي للمطعومات فلن تترك للأهواء والأمزجة.
2- في سياق أوامر الله في ضرورة الأخذ بشرائع الله كلها وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة:208] وقد ورد في تفسير هذه الاية الكريمة: "أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام،... (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي اعملوا الطاعات واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان.
3- في سياق الأمر بالنهي عن الفواحش وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [النور:21].
لهذا كان التعبير القرآن في النهي عن اتباع الخطوات لأن العاقل لا يتبع الشيطان وهو يعلم بعداوته القديمة والأبدية، لكن هذا العاقل نفسه قد ينزلق فيقارب معصية صغيرة هنا وصغيرة هناك ويرتكب ذنبا أو يتبع شهوة أو يترك حلالا ويقترب من الشبهات، وهكذا يظل الشيطان يستدرج بخطواته الإنسان مما يجعل مواقعة صغائر الذنوب سهلة، وكل شيء في بدايته صعب وكبير حتى تُتخذ الخطوة الأولى فيذل لك الصعب وتعتاد الأمر ، لذلك لن تجد الإنسان يرتكب أول ما يرتكب الكبائر!
بل لو تأملت حاله لوجدته قد تجرأ بداية على الصغائر وهكذا يظل الشيطان يزين للإنسان ويستدرجه تماما كما حال الصياد في السطور الأولى.
والسبيل لمدافعة هذه الخطوات وعدم الوقوع بشراكه يكون بما يلي:
1.أن يظل المؤمن مستحضرا العدواة الأبدية وعدم فتور الشيطان عن الإيقاع به، وكيف لمؤمن يدرك أن من ناصبه العداء ويحيك له المؤامرات ويستنفر حزبه للإيقاع والنيل منه أن يأمن ولا يأخذ بأسباب هذه المعركة.
2.أن يفر إلى الله فلا يركن لبادئة الخواطر والأفكار، فالخطوة يسبقها الفكرة وما تبدأ طريق التنازل والاعوجاج والعصيان إلا بالخطوة الأولى ليتبعها سيل من الخطوات وكأنها حبات عقد انفرط لذلك اِلْزم قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200].
3.الالتجاء والاعتصام بالله والاستعاذة من الشيطان الرجيم، واليقين بأن لا سلطان له على المؤمنين لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99].
4.التسلح بالعلم والمعرفة فيكون إيمان المرء عن بيّنة ويقين لا مجرد اتباع وتقليد، وبذلك يسد من منافذ الشيطان ووسوسته وتشكيكه فقد قال عليه الصلاة وأتم التسليم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" (رواه ابن ماجه).
5.الصحبة الطيبة التي تشد من أزرك وتعين على أمرك فلا يستفرد فيك الشيطان.
6.تحصين النفس بالأدعية والأذكار والأوراد والتزود بالقربات والأعمال الصالحة.
7. لا ييأس أحدنا من رحمة الله فباب التوبة على مصراعيه، فإن كان الذنب عظيماً فالرب جل شأنه رحيم وما علينا إلا صدق الأوبة والتوبة.
اللهم إنا نعوذ بك من شياطين الإنس والجن.