من بين أهم الظواهر التي فجَّرتها جائحة كوفيد-19، قضية وعي الشعوب، الذي لم يكن في غالب دول العالم على قدر مستوى الحدث مما سمح للبشرية بأن تعرف أزمة لم يكن أحدٌ ليتصوَّر -في عصر العلم والعقل وغزو الفضاء- أن يتعرض لها عالم القرن الحادي والعشرين.
أُصيبت الحياة بالشلل، واختفت المنتجات الأساسية عن أرفف متاجر أكثر الدول وفرة في الإنتاج، بل وفي أعتى الرأسماليات التي اخترعت نظرية الإنتاج/ السوق التي تحكم الاقتصاد العالمي منذ حركة الكشوف الجغرافية التي بدأت في القرن الخامس عشر الميلادي.
وكما سبق أن تناولنا في مواضع سابقة من الحديث، فإن الأزمات التي رافقت تفشِّي فيروس #كورونا المُسْتَجد، لا تعود لطبيعة الفيروس والمرض أو الوباء الذي تسبب فيه، وإنما لطبيعة المنظومات الاقتصادية والاجتماعية التي تتحكم في تصورات البشرية لحياتها، سواء في المجال العام، أو على مستوى حياة الأفراد والمجتمعات.
فهذه المنظومات خلقت بدورها منظومة من الظروف منعت الإنسان العادي -ومجتمعات ودول كبرى أيضاً- من أن تواجه الوباء بالكفاءة اللازمة.
فمثلاً، رأينا أنَّ طغيان مفاهيم الربحية والرأسمالية المتوحشة، وقفت خلف ظواهر مثل استغلال الشركات الخاصة للعُمَّال والموظَّفين، بأدنى مستوىً من الرواتب، مما منع هذه الشريحة من الناس -التي تشكل الغالبية الساحقة من المجتمعات- أن تتعامل مع هذه الأزمة طويلة المدى.
كذلك رأينا أن الإعلاء من قيمة الربح على حساب قضايا الإنسانية، في عدم توجيه الاستثمارات الكافية للأدوية والمستحضرات الطبية التي تتعلق بهذه النوعية من الأمراض التي كان من المعروف أن لها دورة حتمية سوف تمر البشرية بمرحلة مدمرة منها عمَّا قريب، بسبب أن شركات الأدوية فضَّلت توجيه استثماراتها إلى ما يمكن أن نطلق عليه أدوية الأثرياء، مثل علاجات السُّمْنَة والسرطان وأمراض الجهاز الهضمي.
وهذا وثَّقناه بالتقارير والأرقام، وكذلك يؤكده الحدث.
إلا أن هناك زاوية أخرى شديدة الأهمية كشف عنها الوباء مع طول أمده، تتعلق كذلك بأثر المنظومات التي تهيمن على الحياة الإنسانية، بما في ذلك الأنظمة السياسية الحاكمة وكذلك المنظومات الاجتماعية والإعلامية وما يتصل بقضية تأهيل الإنسان في المجال الفكري والسلوكي.
شهدت الأزمة مُرَّ الشّكوى من كثير من حكومات العالم، ومن شرائح اجتماعية من المثقفين والمتعلِّمين من سلوكيات الكثير من الناس التي عكست حالة من ضعف الوعي بل وغيابه في كثير من الأحيان، والتي تسببت في أزمات كثيرة إضافية بفعل الوباء، وفي زيادة طول أمد الأزمة مما رتَّب الكثير من التكاليف الاقتصادية المُضَاعَفة، وهي التكاليف الأسوأ والأعمق أثراً للوباء.
شهدت الأزمة مُرَّ الشّكوى من كثير من حكومات العالم، ومن شرائح اجتماعية من المثقفين والمتعلِّمين من سلوكيات الكثير من الناس التي عكست حالة من ضعف الوعي بل وغيابه في كثير من الأحيان، والتي تسببت في أزمات كثيرة إضافية بفعل الوباء، وفي زيادة طول أمد الأزمة
بل إنه، ومن خلال تقارير منظمات دولية موثوقة مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية -التي تُعد إحدى المنظمات المتخصصة التابعة لها- وكذلك تقارير حكومات ومؤسسات بحثية غربية، فإن الوباء في الأصل نشأ وانتشر، وزادت تكاليفه الاقتصادية والاجتماعية بسبب ضعف الوعي، سواء في بلد المنشأ -الصين- أو في دول من المفترض أنها تتمتع بمنظومات إعلامية وتعليمية وثقافية من الأرقى في العالم.
فهذه الظاهرة (ظاهرة ضعف الوعي) -خلافاً للشائع- لا تقتصر على عالمنا العربي أو دول العالم الثالث والأقل تقدُّماً، بل ربما أثبتت بعض هذه البلدان والمجتمعات وعياً أفضل من بعض المجتمعات الغربية ، على النحو الذي رأيناه في تونس والأردن والمغرب والكويت وسلطنة عُمان، حيث وصلت بعضها بالفعل إلى نسبة صفر إصابات بسبب التزام المواطنين بتعليمات السلامة والأمان الموضوعة من الحكومات هناك.فالوباء وأوبئة أخرى كثيرة نشأت من قبل في الصين بسبب عدم وعي المواطنين في المناطق الريفية هناك بالكثير من النواحي المتعلقة بعائلة فيروسات الأنفلونزا، وهي الأخطر عبر التاريخ، خلافاً للشائع، بسبب خاصية تملكها، وهي تمتُّعها بالقدرة على تغيير صفاتها الجينية، وقدرتها على التحوُّر من عائلٍ إلى آخر، إنسان أو حيوان، بما يمكِّنها من الإفلات من الأدوية والعقاقير الطبية التي يجري تطويرها لمواجهتها.
فإلى الآن، لم يصل مجموع مَن ماتوا جراء أوبئة بكتيرية مثل الطاعون، أو فيروسية مثل الإيبولا والملاريا، وعبر التاريخ، إلى مجموع مَن ماتوا في جائحة الأنفلونزا الإسبانية التي ضربت العالم في العام 1918م، وتسببت في عشرات الملايين من الوفيات ونحو مائة مليون بين إصابات ووفيات.
بل إنه مما لا يعرفه عوام الناس، أن الأنفلونزا الموسمية تقتل سنويّاً عشرات الآلاف من الأشخاص عبر العالم.
وبالعودة إلى جائحتنا الحالية، فإنه في إيطاليا، التي تُعد واحدة من أسوأ البلدان التي عرفت تفشياً للمرض بحوالي 240 ألف حالة إصابة، و35 ألف وفاة، أثبتت التقارير الموثوقة أن سبب انتشار الوباء كان التفاف المواطنين على تعليمات الأمان والسلامة الحكومية في بداية الجائحة، و"تسربهم" أو "تسللهم" – بالمعنى الحرفي للكلمة – إلى الشواطئ والمتنزهات.
نفس الموقف في إسبانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وهي –حرفيّاً– أكثر دول العالم تطوراً في المجال الصناعي والصحي، وفي المجال الثقافي والتعليمي كذلك؛ فقد كان ضعف وعي المواطن، وعدم التزامه بتعليمات السلامة والأمان، بل وتعمُّد الالتفاف عليها، هكذا تقول حكوماتهم في تقاريرها الرسمية!
ومما يدل على أن نقطة الوعي بالفعل هي من أهم ما يكون كعامل أمان في مثل هذه الحالات، أن الدول الإسكندنافية، ودولاً أخرى مثل ألمانيا والنمسا واليابان وكوريا الجنوبية، وهي –وفق تقارير منظمات دولية عديدة مثل "اليونسكو"– تُعد صاحبة تجارب أكثر تقدمية في مجال التعليم وصناعة وعي المواطن والتنمية البشرية بشكل عام، استطاعت في وقت قياسي أن تتجاوز الجائحة بأقل الخسائر.
بل إن دولاً مثل فنلندا والسويد، وهي من بين أفضل دول العالم في هذا المجال، لم تطبِّق في الأصل أية إجراءات احترازية بالمعنى المعروف، وقام المواطنون من أنفسهم بالاستجابة الرشيدة المطلوبة في مثل هذه الحالات، مما جعلها خارج دائرة الأزمة الاقتصادية التي رافقت الوباء.
مظهر آخر من مظاهر غياب الوعي بسبب المنظومات السياسية والاجتماعية الموجودة، نجده في حالة التكالب غير المبرَّر على أسواق الأدوية والمواد الغذائية، والتي أفرغت حرفيّاً أرفف متاجر وصيدليات دول الوفرة في عالم الرأسمالية المعاصرة، مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا.
الدول التي عانت من ظاهرة ضعف أو غياب الوعي لدى المواطن في عالمنا العربي، فإن الأزمة الأساسية تكمن في سياسات الحكومات والأنظمة الحاكمة .فهذه الأنظمة عندما أرادت أن تضمن لنفسها أن تحكم في هدوء، ومن دون ممانعة كبيرة من مواطنيها، سعت إلى تجهيلها، بحيث تغيب عنها المفاهيم الأساسية للحقوق والواجبات لدى الدولة ومنظومة الحكم، فلا يطالبون بشيء.
فنجد تخلُّف التعليم، وسياسات إعلامية تقود إلى كارثة عقلية لمدى متابعيها، مما جعل بلداناً حضارية قديمة مثل مصر التي لها الريادة في مجال التنوير والعلوم والتشريع في الشرق والعالم القديم كله، تعاني من مشكلة ضخمة في موضوع انتشار الوباء بسبب ضعف وعي المواطن لدرجة أنه عندما بدأت دول العالم التي تشهدت التَّفشِّيات الأضخم للوباء، تبدأ في محاصرته، والقضاء عليه، فإن وتيرة الإصابات والوفيات ترتفع فيها.
وفي الأخير، فإنه بشكل عام، فإن هذه الأزمة ذات الطابع الشامل والعميق في طبيعتها وتأثيراتها، قد أفرزت الكثير من الظواهر التي ينبغي للبشرية بالكامل أن تقف أمامها، وأن تعيد فيها حساباتها، وبالذات فيما يتعلق بالجوانب المتصلة بمدى نضج العقل الإنساني، وتطور السلوك البشري، ومدى رشادته في استجاباته للمواقف المختلفة، فهذه الأمور هي المعيار للتقدُّم/ التخلُّف الحضاري، فالأمم التي صنعت أسرع سيارات وطائرات الأرض، هي أكثر الأمم التي انتشر فيها فيروس كورونا بسبب ضعف وعي مواطنيها!