ينتشر بين المديرين اعتقاد خاطئ جداً عن أن أسلوب الضغط على الموظفين هو الأسلوب الأكثر جدوى في العمل؛ لتعزيز الانتاجية، وشحذ طاقاتهم المختبئة، واستغلال إمكاناتهم بالطريقة المثلى!
إلا أن الأبحاث المستمرة التي تجرى على بيئات عمل مختلفة في دول متعددة تنتشر في أنحاء العالم، أثبتت -بتجارب استغرقت سنوات متواصلة- أن العمل تحت مستوى زائد من الضغط على الموظفين يكلّف أصحاب العمل مزيداً من الخسائر، ويستنفد الموظفين صحياً ونفسياً فلا يعودون قادرين على العطاء أو التفاعل العادي!
وعلى سبيل المثال، شرح الخبراء والباحثون الذين أشرفوا شخصياً على تلك الدراسات أن الرعاية الصحية التي يتطلبها الإجهاد -الذي يعاني من الموظفون الذين يعملون تحت ضغط متزايد والذي يعد نتيجة طبيعية للعمل تحت الضغط- سوف تكلّف المنظمات والمؤسسات والموظفين شخصياً تكاليف سيكونون في غنى عنها إن اتبع المديرون أساليب رحيمة في إدارة الموظفين والشركات!
وفي لفتة طريفة، عبّر بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي عن الزياد المضطردة في الإجهاد باضطراد الضغط في بيئة العمل، انتشر "Comic" -أو فكاهة- عن الموظفين الذين يضطرون إضافة جملة "أستطيع العمل تحت الضغط" في السيرة الذاتية الخاصة بهم أثناء التقدم للوظيفة، يدعو الموظف فيها على نفسه لأنه كتب هذا البند كميزة شخصية؛ لأن المديرين يستغلونه أسوأ استغلال للأسف!
الإجهاد هو أبسط نتائج الضغط في بيئة العمل
في دراسة بحثية شملت عدة منظمات، بلغت نفقات الرعاية الصحية للموظفين الذين يعانون من مستويات عالية من الإجهاد أكثر من نفقات نظرائهم في منظمات لا تعتمد أسلوب العمل تحت الضغط بنسبة 46%، وللأسف فإن الإجهاد -برغم كونه أبسط نتائج الضغط في بيئة العمل- هو المتهم الأول والأهم في التسبب بأمراض القلب والشرايين التاجية.
فقد أفاد 52% من الموظفين أن "الإجهاد في مكان العمل دفع بالموظفين إلى تجاهل ترقيات تشترط العمل تحت الضغط الشديد، أو البحث عن وظيفة جديدة أو ترك وظيفة يتعرضون للضغط فيها".
الإجهاد - برغم كونه أبسط نتائج الضغط في بيئة العمل - هو المتهم الأول والأهم في التسبب بأمراض القلب والشرايين التاجية
التراحم هو الأصل لا البديل
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الأقرع بن حابس -رضي الله عنه- أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبّل الحسن، فقال: "إن لي عشرة من الولد ما قبّلت واحداً منهم قط"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "إنه من لا يَرحم، لا يُرحم" [متفق عليه] وفي رواية: "أرأيت إن كان الله نزع الرحمة من قلبك، فما ذنبي؟".
ومع أن التراحم أصلٌ في التعاملات الإسلامية -سواء في البيئة المنزلية أو بيئة العمل- وعليه تُبنى دوائر الأمان والثقة التي يجب أن تجمع بين أفراد المجتمع المترابطين برابطة دم أو قرابة أو عمل... إلخ. إلا أنه الحل الذي اقترحته المؤسسات البحثية والخبراء النفسيون والتربويون والتنمويون كبديل لثقافة الضغط الذي لا يؤدي إلا إلى الإجهاد.
وسبب ذلك -عدا كونه إعجازاً في التشريعات السماوية التي يثبتها العلمُ يوماً بعد يومٍ- هو أن التراحم في بيئة العمل سوف يزيد الإنتاجية، ويحسّن المنتج والخدمة والعمل، ويعزز التطور وينمي الأرباح ... إلخ. فلن يقتصر على إسعاد وإراحة الموظفين وحسب!
اقرأ أيضاً: كيف يدعم القائد من يرعاهم في الأوقات المضطربة “زمن كورونا مثلاً”
كمدير... يجب أن تكون مثقفاً واعياً بالجانب الصحي والنفسي والتنموي للمورد البشري الذي يدير جميع موارد وطاقات شركتك، ولتكن سبباً في خلق حالة من الترابط داخل المؤسسة، فقد أثبتت الدراسات ذاتها أن التفاعلات الاجتماعية الإيجابية في العمل تعزز صحة الموظف الجسدية والنفسية؛ لأنها تخفض معدل ضربات القلب وتوازن ضغط الدم وتقوّي جهاز المناعة، وعلى النقيض فإن انعدام ثقافة الترابط والجو المريح يؤدي إلى الضيق النفسي الذي يتسبب بدوره في إصابات الموظفين بأمراض الدم والقلب ويضعف جهاز المناعة.
أثر التراحم والتعاطف على العمل
يقول ريتشارد برانسون مؤسس ومدير مجموعة شركات فيرجن: “إذا اعتنيت بموظفيك، سيعتنون هم بعملائك... هكذا بكل بساطة”؛ فهكذا تدار العجلة، وطالما كان الموظف مرتاحاً في العمل سوف يستريح العملاء في التعامل فيصبحون عملاء دائمين وتصبح شركتك هي وجهتهم المفضلة واختيارهم الأول، هل يعلم المدير ما يعنيه ذلك؟
ففي الحقيقة، إذا باشر الموظف عمله بحالة مزاجية إيجابية سيكون أكثر رغبة في مساعدة أقرانه وتقديم خدمة عملاء ممتازة من تلقاء نفسه، والموظف الذي يكون سعيداً وهو على رأس عمله، سيقدم خدمة عملاء مميزة جداً، وينشر الإيجابية بين زملائه فيشيع في المكان أجواء الرضى والسلام التي تنمّي في الموظفين روح الانتماء للشركة.
وفي هذه الأجواء سوف تنشأ بين الموظف والآخرين علاقات عمل إيجابية تصب في مصلحة الشركة، وكل ذلك يؤدي إلى تعزيز مستوى جودة العمل وزيادة الإنتاجية بشكل ملحوظ، فضلاً عن الالتزام الذي سيتحلى به الموظفون والتعاون والانضباط... وغيره من المميزات التي ينشدها المدير في مؤسسته.
الشركة التي ينعم موظفوها بهذا الكم من الميزات لن تحتاج إلى رعاية صحية مكثفة أو زائدة عن الحد الطبيعي، وبالتالي... فإن ميزانية المؤسسة ستتوازن وتوفر الكثير من المصروفات، وهذه ميزة أخرى لاتباع المدير أسلوب التعاطف والتراحم مع موظفيه داخل العمل.
أجرى الباحثان (إد. دينر، ومارتن سليجمان) دراسة لمعرفة أسباب ذلك التحسن الكبير في إنتاجية وتقدم المؤسسات التي يتبع مديروها أسلوب التراحم والتعاطف، وقد خلصت إلى أن الاتصال الاجتماعي بطريقة ذات معنى يؤثر إيجاباً في رفاهية الموظفين؛ لأنه يساعد على التمتع بصحة نفسية وجسدية أفضل، كما يسرّع الشفاء من المرض، وذلك يطيل الحياة!
اقرأ أيضاً: كيف تطيل عمرك بتغيير الطريقة التي تعيش بها؟
الاتصال الاجتماعي بطريقة ذات معنى يؤثر إيجاباً في رفاهية الموظفين؛ لأنه يساعد على التمتع بصحة نفسية وجسدية أفضل
وعلى الرغم مما تثبته الأبحاث ويلمسه المديرون واقعاً في مؤسساتهم إلا أن بعض المديرين يتجنب التعامل الرحيم مع مرؤوسيه خوفاً من أن يظهر ضعيفاً أو يُظن أنه ضعيف ، مع أن التاريخ سجّل قصص نجاح لقادة عظماء كانوا عطوفين متراحمين يقودون الناس بالتعاطف وشهد الجميع أنهم أقوياء للغاية وملهمون، على رأسهم سيدنا ونبينا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده قادة ومفكرون كثر، اقتنع الناس بقوة شخصياتهم -بالرغم من رقة أخلاقهم ورحمتهم بكل من عاشرهم- وصل ولاء تابعيهم أن تخلوا عن كثير من معتقداتهم وقناعاتهم وتبعوا أولئك القادة.
ألا يرغب قادة المنظمات ومديرو الحملات والمؤسسات والدول أيضاً بالحصول على هذا النوع من الولاء والالتزام؟
أجرى باحث يُدعى (جوناثان هيدت - من جامعة نيويورك) دراسة تدعم ولاء الناس للقائد الرحيم، أثبت فيها أن رؤية أحد ما يساعد الآخرين تخلق حالة فريدة من الرفاه أطلق عليها "السموّ" ويقول: "إننا لا نشعر بذلك السمو حين نشاهد حالة تعاطف وحسب، إنه فوق ذلك يحركنا باتجاه المشاركة ويحفزنا لنكون متعاطفين".
وقد طبق هذا الباحث دراسته على بيئة عمل فأثبت أن شعور الموظفين بالولاء والالتزام والسمو والرغبة في التراحم تزداد طردياً مع كون القائد رحيماً متعاطفاً، وكان يتعامل مع موظفيه تعاملاً مثمراً ودوداً، وتلك حقيقة ما نريد أن نقوله منذ بداية المقالة: إن الناس يحذون حذو القائد الرحيم المتعاطف الملتزم تجاه تابعيه وموظفيه أخلاقياً وإنسانياً .
شعور الموظفين بالولاء والالتزام والسمو والرغبة في التراحم تزداد طردياً مع كون القائد رحيماً متعاطفاً
ولا تزال الأبحاث مستمرة في هذا المجال؛ لأنه يعد حديث الاكتشاف نسبياً؛ فقد أثبت علماء الاجتماع -جيمس فاولر (من جامعة كاليفورنيا، سان دييغو) ونيكولاس كريستاكيس (من جامعة هارفارد)- أن التعاطف معدٍ، وأن السمو الأخلاقي دافع قويّ لنشر ثقافة التعاطف؛ فالكرم واللطف يولدان كرماً ولطفاً مقابلاً - كردة فعل تلقائية - وهذه هي الطريقة التي تتشكل بها الثقافة عموماً.
لا يمكن أن يتخيل قائد ما شكلاً أفضل من ذلك للمجتمع الذي يقوده!
اقرأ أيضاً: لماذا يحتاج الناس إلى التعاطف؟
وبرأيي الشخصي، إن التراحم في بيئة العمل وفي المنزل وفي أي مكان، هو منهج نبوي صرف، إلا أن إثباته بالعلم يجعله يصل إلى كل العقول ويثبت جمال ديننا الإنسانيّ وشريعتنا السمحة ، لا يزال العلماء يستكشفون ويبحثون سبل تعزيز التعاطف والتراحم في عالم الأعمال، وانتشارها عبر المنظمات.
ويقول الخبراء: "إن نجاح تلك المَهمَّة يتطلب حواراً مفتوحاً وجسور اتصال بين عالمي البحث والأعمال"، حتى تاريخ قريب ماضٍ عُقد مؤتمر يناقش التراحم والأعمال، في جامعة ستانفورد" وقد استضافه مركز التراحم والإيثار للبحوث والتعليم (CCARE) وكاتبة هذا المقال هي إحدى المدراء التنفيذيين للمؤتمر الذي انعقد في 30 إبريل الماضي.