إن قيام السلطات التركية باتخاذ قرار (إعادة مسجد أيا صوفيا إلى سيرته الأولى، وتحويله من متحف إلى مسجد)، قد ألقى حجراً في المياه الراكدة، ونكأ جراحاً اعتقد البعض أن ألمها قد زال مع مرور الزمان أو أنها قد نسِيت، وهيَّج مشاعر مكبوتة، وأنات دفينة في سراديب الروح التي تتحسر تحسر النساء على ماض لم تحافظ عليه كما يفعل الرجال.
إن ما قام به القضاء الإداري التركي بشأن مسجد أيا صوفيا ما هو إلا مجرّد إبطال عادل لقرار تعسّفي جائر . وبموجب هذا القرار أصبح من حق الأتراك إحياء مسجد آيا صوفيا من جديد، ليُعبِّر عن هوية تركيا الدينية كدولة مسلمة لها تاريخ عريق وأصول ممتدة وقديمة بقدم الزمان.إن قرار إعادة مسجد أيا صوفيا إلى سيرته الأولى، وتحويله من متحف إلى مسجد ليس قراراً عنترياً غير مدروس كما يدَّعي البعض، وليس تخبطاً سياسياً كما يُسميه البعض، وليس للتستر على إخفاقات في جوانب أخرى كما يشيع أذناب الغرب، وإلا ما باركته ولا التفت حوله كل الأطياف السياسية داخل تركيا.
إن قرار إعادة مسجد أيا صوفيا إلى سيرته الأولى إن لم تكن له نتائج سوى إخراج ضغائن القلوب المريضة وفضح قبائح النفوس الخبيثة، فنعم القرار هو!!
إن من الطبيعي أن يُحدث هذا القرار المبارك ثورة عارمة في بلاد الغرب وأمريكا وكل الدول التي تتمنى ألا تقوم للإسلام ولا للمسلمين قائمة، ولكن الغير طبيعي، والغير إنساني، واللاأخلاقي، واللا مبرر له، هو أن نجد ردود أفعال ممن ينتسبون إلى الإسلام وإلى العروبة أشد ضراوة وأكثر شراسة مما حدث من الغرب نفسه!!
إن في الوقت الذي صرح فيه "سيرغي فيرشينين"، نائب وزير الخارجية الروسي بأن قرار أنقرة بتحويل "آيا صوفيا” إلى مسجد شأن تركي داخلي، وأنه لا ينبغي لروسيا ولا للآخرين التدخل فيه.
وفي الوقت الذي وجه فيه المفتي العام لسلطنة عمان، أحمد بن حمد الخليلي، تهنئة للأمة الإسلامية والشعب التركي، إزاء قرار إعادة فتح جامع "آيا صوفيا" للصلاة بعد 86 من تحويله إلى متحف، ومما جاء في هذه التهنئة قوله: "فهنيئا لك أيها الشعب الأصيل بإسلامك، ولقائدك هذه الخطوة الشجاعة، فامضوا إلى الأمام غير لاوين على شيء من ضجيج الباطل، الذي تنعق به حناجر المارقين، فما هم إلا في الأذلين، وقد كُبِتوا كما كُبِت الذين من قبلهم، وسِيْرُوا قدُماً على هذا الصراط المستقيم، وقلوب المسلمين معكم، وألسنتهم تلهج بالدعاء لكم".
على النقيض مما سبق نجد ألسنة حِداد، وأقلاماً مأجورة، وأبواقاً متهافتة، ومنصات يعتليها أصحاب الذمم الخربة، والضمائر الميتة، والنفوس التي يسيل لعاب أصحاباه للدولار ولا يكترثون إذا استبيحت الديار، كل هؤلاء قد نفثوا سمومهم وأخرجوا ضغائن قلوبهم اعتراضاً على إعادة مسجد أيا صوفيا لسيرته الأولى.
فعلى سبيل المثال نجد أن وزيرة الثقافة الإماراتية قد انتقدت الخطوة التركية، معتبرة أن "تغيير واقعه عبر إدخال تعديلات تمس جوهره الإنساني، يضر بالقيمة الثقافية لهذا الرمز الإنساني الذي كان دوماً أيقونة للحوار والتفاعل بين الحضارات والثقافات، وتابعت قائلة أن: "التراث الثقافي قيمة عالمية إنسانية وإرث بشري لجميع الشعوب والثقافات والحضارات.. مسؤوليتنا صونه وضمان الحفاظ عليه للأجيال القادمة.. ليبقى شاهداً على تعايش الشعوب والأديان وتسامحها".
كما نجد أن هناك من بين العلماء المحسوبين على الأزهر الشريف من صرَّح قائلاً بأن الصلاة في مسجد أيا صوفيا باطلة وغير مقبولة، ومنهم من صرَّح قائلاً بأن تحويل متحف أيا صوفيا لمسجد يُخالف تعاليم الإسلام ... إلى غير ذلك من التصريحات غير المسئولة في الشرق والغرب.
إن الشرع والعقل والمنطق والحنكة السياسية لا يعترفون بمن يدافعون عن أي قضية بشراسة عمياء، ولا بمن ينتقدونها بتطرف أهوج، كما أنهم لا يعترفون باللاءات العاطفية المحضة، ولا بالأحكام المُسبقة المبنية على خلافات أيديولوجية.
تساؤل مشروع
ألا يعلم دُعاة التعايش الديني أنّ تركيا بها الآن 349 كنيسة لليونانيين والسريان والأرمن في مختلف محافظات الدولة ، وذلك حسب إحصائيات رئاسة الشؤون الدينية التركية، وأنّ حرية العبادة مكفولة للمسيحيين دون تضييق ولا تجاوزات تذكر!ألا يعلم دعاة الإنسانية ووحدة الأديان وحرية العبادة أن المسيحيين أنفسهم يقومون بإغلاق الكنائس وبيعها بالمزاد العلني في أمريكا وأوروبا!
ألا يعلم كل هؤلاء أن ألمانيا تتصدر قائمة الدول الأكثر بيعاً للكنائس، وأكبر شاهد على ذلك هو كنيسة “دورتموند يوهانس”، التي اشتراها “الاتحاد الإسلامي التركي” (ديتيب)، قبل أكثر من 10 أعوام، وتحول اسمها إلى جامع دورتموند، وتبلغ مساحة الجامع 1700 متر مربع، ويتسع لحوالي 1500 مصلٍّ.
وبحسب تقرير أعدته الإذاعة الألمانية الوطنية ونشره موقع "دويتشه فيلله"، عام 2017 فإن الكنيسة الكاثوليكية باعت عام 2016 أكثر من 84 كنيسة!
ألا يعلم كل هؤلاء أن هولندا قامت بتحويل بعض الكنائس إلى ساحات تجاريّة وقاعات للألعاب الرياضية وحدائق وغير ذلك من المرافق بدلاً من غلقها لقلة زوارها والمترددين عليها!
وفي هولندا أيضاً، قامت الجاليات الإسلامية والعربية بشراء الكثير من الكنائس وحولتها إلى مساجد، وفي مقدمتها جامع الفاتح في العاصمة أمستردام، وجامع السلطان أيوب في ولاية غرونينغن، وجامع عثمان غازي في ولاية وييرت، وتخضع هذه المساجد لإشراف وقف الديانة الهولندية.
ألا يعلم كل هؤلاء أن الكنيسة الإنجليزية تقوم بغلق نحو 20 كاتدرائية سنويّا، وأن أكثر من 10 آلاف كنيسة أغلقت أبوابها في عموم بريطانيا منذ عام 1960م، ومن المتوقع أن يتجاوز العدد 4 آلاف في 2020م، وذلك حسب ما أكدته "كريستيان ريسيرج”، المهتمة بشؤون المسيحيين في بريطانيا في عام 2017م!
ألا يعلم كل هؤلاء أنه توجد في بريطانيا مواقع شهيرة للإعلان عن بيع الكنائس مثل موقع "Our Property” الشهير!
ألا يعلم كل هؤلاء أنه ما من بلد إسلامي إلا وفيه مسجد أو مجموعة مساجد قد سبق تحويلها إلى كنائس أثناء فترة الاحتلال، ثم أعيدت المساجد لسابق عهدها بعد رحيل الاحتلال!
ألا يعلم كل هؤلاء أن الدول التي وصلها الفتح الإسلامي في أوروبا قد قامت بتحويل المساجد التاريخية وغيرها إلى كنائس وإلى حظائر وإلى ملاهي ليلية وحانات ... الخ، وذلك بعد سقوط الخلافة الإسلامية!
إن ذكر كل ما سبق ما هو إلا غيض من فيض، وما هو إلا لبيان أن المتباكين على "أيا صوفيا" إنما يفعلون ذلك إما جهلاً بالحقائق التاريخية وبالواقع الحالي الموجود، أو لمجرد مواقف سياسية وأيدولوجية لا صلة لها بالمبادئ ولا علاقة لها بالشعارات الرنانة الجوفاء التي يتغنون بها.
إن المتباكين على "أيا صوفيا" إنما يفعلون ذلك إما جهلاً بالحقائق التاريخية وبالواقع الحالي الموجود، أو لمجرد مواقف سياسية وأيدولوجية لا صلة لها بالمبادئ ولا علاقة لها بالشعارات الرنانة الجوفاء التي يتغنون بها
وأخيراً أقول
إن تركيا عندما وقفت على قلب رجل واحد كسرت الأغلال التي ضُربت حول آيا صوفيا، وأن الأمة إذا توحدت مشاعرها نحو هدف واحد نبيل سيتم كذلك كسر الأغلال التي ضربت حول القدس والمسجد الأقصى، وما ذلك على الله بعزيز .
ومن هذا المنطلق أقول
إن الرئيس التركي أردوغان كان مُحقاً كل الحق حين قال أن: "إحياء آيا صوفيا من جديد هي بشارة نحو عودة الحرية للمسجد الأقصى" إن شاء الله تعالى.