تعدُّ مدينة القسطنطينيَّة (إستانبول اليوم) من أهمِّ المدن العالميَّة، وقد أُسِّست في عام (330م) على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأوَّل. وقد كان لها موقعٌ عالميٌّ فريدٌ، حتَّى قيل عنها: «لو كانت الدُّنيا مملكةً واحدةً، لكانت القسطنطينيَّة أصلح المدن، لتكون عاصمةً لها». ومنذ تأسيسها فقد اتَّخذها البيزنطيُّون عاصمةً لهم، وهي من أكبر وأهم المدن في العالم (الصلابي، 2003، 69).
عندما دخل المسلمون في جهادٍ مع الدَّولة البيزنطيَّة كان لهذه المدينة مكانتها الخاصَّة في ذلك الصِّراع، ولذلك فقد بشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدَّة مواقف، من ذلك ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقَّق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لتفتحنَّ القسطنطينية على يد رجلٍ، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش!» (الصلابي، 2003، 69). ويمكن القول: إن من أكثر الأحداث التي أثارت الاهتمام العالمي هو فتح مدينة القسطنطينية وتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد… فما حيثيات وسياقات ذلك الحدث التاريخي الكبير؟
أولاً: مسار الفتح الإسلامي العثماني لمدينة القسطنطينية ومكانة آيا صوفيا
استبسل العثمانيُّون المهاجمون على المدينة وعلى رأسهم محمَّد الفاتح، وصمد البيزنطيُّون بقيادة قسطنطين صموداً بطوليَّاً في الدِّفاع، وحاول الإمبراطور البيزنطيُّ أن يخلِّص مدينته وشعبه بكلِّ ما يستطيع من حيلةٍ، فقدَّم عروضاً مختلفةً للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال، أو الطَّاعة، أو غير ذلك من العروض الَّتي قدَّمها، ولكنَّ الفاتح (رحمه الله) يردُّ بالمقابل طالباً تسليم المدينة تسليماً. وأنَّه في هذه الحالة لن يتعرَّض لأحد من أهلها، ولا لكنائسها بالأذى (الصلابي، 2003، 75).
وقد أيقن محمَّد الفاتح بأنَّ المدينة على وشك السُّقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلامٍ، فكتب إِلى الإمبراطور رسالةً دعاه إِلى تسليم المدينة دون إِراقة دماء، وعرض عليه تأمين خروجه، وعائلته، وأعوانه، وكلِّ من يرغب من سكَّان المدينة إِلى حيث يشاؤون بأمانٍ، وأن تحقن دماء النَّاس في المدينة، ولا يتعرَّضوا لأيِّ أذىً، ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة، أو الرَّحيل عنها، ولما وصلت الرِّسالة إِلى الإمبراطور جمع المستشارين، وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم إِلى التَّسليم، وأصرَّ آخرون على استمرار الدِّفاع عن المدينة حتَّى الموت، فمال الإمبراطور إِلى رأي القائلين بالقتال حتَّى اخر لحظةٍ، فردَّ الإمبراطور رسول الفاتح برسالةٍ، قال فيها: «إِنَّه يشكر الله إِذ جنح السُّلطان إِلى السِّلم، وأنَّه يرضى أن يدفع له الجزية، أما القسطنطينية فإِنَّه أقسم: أنه سيدافع عنها إِلى آخرِ نَفَسٍ في حياته، فإِمَّا أن يحفظ عرشه، أو يدفن تحت أسوارها» (فهمي، 1987، 116). فلمَّا وصلت الرِّسالة إِلى الفاتح، قال: «حسناً عن قريبٍ سيكون لي في القسطنطينية عرشٌ، أو يكون لي فيها قبرٌ».
وبعد أن عاد السلطان الفاتح إِلى خيمته، ودعا إِليه كبار رجال جيشه، أصدر إِليهم التَّعليمات الأخيرة، ثمَّ ألقى عليهم الخطبة التَّالية: «إِذا تمَّ لنا فتح القسطنطينيَّة، تحقَّق فينا حديثٌ من أحاديث رسول الله، ومعجزةٌ من معجزاته، وسيكون من حظِّنا ما أشاد به هذا الحديث من التَّمجيد، والتَّقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً: أنَّ الظفر العظيم الَّذي سنحرزه سيزيد الإِسلام قدراً، وشرفاً، ويجب على كلِّ جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرَّاء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحدٍ منهم ما يجافي هذه التَّعاليم، وليتجنَّبوا الكنائس، والمعابد، ولا يمسُّوها بأذىً، ويدعوا القسس، والضُّعفاء، والعجزة الَّذين لا يقاتلون…» (الصلابي، 2003، 85).
وفي هذا الوقت، كان الإمبراطور البيزنطيُّ يجمِّع النَّاس في المدينة لإقامة ابتهالٍ عامٍّ، دعا فيه الرِّجال، والنِّساء، والصِّبيان للدُّعاء، والتَّضرُّع، والبكاء في الكنائس على طريقة النَّصارى لعلَّه أن يستجاب لهم، فتنجو المدينة من هذا الحصار، وقد خطب فيهم الإمبراطور خطبةً بليغةً كانت آخر خطبةٍ خطبها؛ حيث أكَّد عليهم بالدِّفاع عن المدينة حتَّى لو مات هو، والاستماتة في حماية النَّصرانيَّة أمام المسلمين العثمانيِّين، وكانت خطبةً رائعةً كما يقول المؤرِّخون أبكت الجميع من الحاضرين، كما صلَّى الإِمبراطور ومن معه من النَّصارى الصَّلاة الأخيرة في كنيسة آيا صوفيا أقدس الكنائس عندهم، ثمَّ قصد الإِمبراطور قصره يزوره الزِّيارة الأخيرة، فودَّع جميع من فيه، واستصفحهم، وكان مشهداً مؤثِّراً، وقد كتب مؤرخو النَّصارى عن هذا المشهد، فقال مَنْ حضره: «لو أنَّ شخصاً قلبُه من خشبٍ، أو صخرٍ؛ لفاضت عيناه بالدُّموع لهذا المنظر» (الصلابي، 2003، 85).
عمد السلطان محمد الفاتح (رحمه الله) بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً إلى تكثيف الهجوم وإلى استهداف الأسوار والقلاع وأخذ بأسباب النصر المعنوية والمادية، وعند الساعة الواحدة صباحاً من يوم الثلاثاء في جمادي الأولى سنة 857ه/ 29 مايو 1453م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفاً عظيماً وكان الهجوم الثاني متزامناً برياً وبحرياً في وقت واحد حسب خطة دقيقة، أعدت بإحكام، وكان المجاهدون يتقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء رغبة في النصر والشهادة ونال الكثير منهم الشهادة. وفي نهاية المطاف تمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة. (سالم الرشيدي، محمد الفاتح).
وبعد أن تم فتح القسطنطينية عنوةً، توجَّه محمَّد الفاتح إِلى كنيسة آيا صوفيا، وقد اجتمع فيها خلقٌ كبيرٌ من النَّاس، ومعهم القسس، والرُّهبان الَّذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم، وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النَّصارى داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرُّهبان بفتح الأبواب له، فطلب من الرَّاهب تهدئة النَّاس، وطمأنتهم، والعودة إِلى بيوتهم بأمانٍ، فاطمأنَّ الناس، وكان بعض الرُّهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلمَّا رأوا تسامح الفاتح، وعفوه، خرجوا، وأعلنوا إِسلامهم (زيادة أبو غنيمة، جوانب مضيئة من تاريخ العثمانيين). وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إِلى مسجدٍ، وأن يعدَّ لهذا الأمر حتَّى تقام بها أوَّلُ جمعةٍ قادمة، وقد أخذ العمَّال يعدُّون لهذا الأمر، فأزالوا الصُّلبان، والتَّماثيل، وطمسوا الصُّور بطبقةٍ من الجير، وعملوا منبراً للخطيب، وقد يجوز تحويل الكنيسة إِلى المسجد، لأنَّ البلد فتحت عنوةً، والعنوة لها حكمها في الشَّريعة الإِسلاميَّة.
وقد أعطى السُّلطان للنَّصارى حرِّيَّة إقامة الشَّعائر الدِّينيَّة، واختيار رؤسائهم الدِّينيِّين، الَّذين لهم حقُّ الحكم في القضايا المدنيَّة، كما أعطى هذا الحقَّ لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى، ولكنَّه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع (العمري، 1997، 384). وكان الشيخ آق شمس الدِّين أوَّل من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا (حرب، 1994، 374).
ثانياً: آيا صوفيا وتاريخها
سميت آيا صوفيا بهذا الاسم نسبةً إلى قديسة قبطية من مصر، ومعنى اسمها باليونانية "الحكمة الإلهية"، وكانت هذه المرأة تعبد الأوثان ثم تأثرت بالمسيحية واعتنقتها، وتعمقت في العبادة وطقوسها حتى أثرت فيمن حولها من المسيحيين، فذاع صيتها الديني حتى وصل إلى أسماع الحاكم الروماني الوثني أقلوديوس الذي أمر بضربها وقتلها، وبذلك أصبحت آيا صوفيا شهيدة الإيمان المسيحي. وفي عهد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأكبر تم نقل جثمانها إلى القسطنطينية حيث تم دفنه، وبنيت حوله كنيسة ضخمة في عام 360م (إسماعيل، 2010).
لكن هذا المبنى الأول للكنيسة قد تعرض للتدمير بسبب زلزال حصل أو بسبب تمرد ضد حاكم بيزنطة آنذاك بحسب بعض المصادر، فأعاد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بناءها وافتتحها للعبادة في عام 415م. ثم تدمرت مرة أخرى بسبب إحدى الثورات عام 532م، فأعاد الإمبراطور جوستنيان الأول بناءها للمرة الثالثة وقد استمر بناءها خمس سنوات إلى أن اكتمل وتم افتتاحها مرة أخرى في عام 537م، وفي هذه المرة بنيت آيا صوفيا على الشكل الذي نعرفه اليوم، وبالصورة ذاتها (اردوغان، 2012، 3).
والبناء هو تحفة معمارية تمثل قمة الفن المعماري البيزنطي، وقد بنبي على الطراز البازيليكي، وقد توّج بقبة هي من أكبر قباب العالم حيث يبلغ قِطرها 21 متراً، وترتفع عن الأرض بعلوِ 55 متراً، ترتكز أطرافها على أربعة أكتاف مربعة، ويزين هذا المعبد من الداخل الكثير من اللوحات والرسوم والنقوش التي تغطي جدرانه من الداخل. وقد كتب الرحالة العربي ابن بطوطة في وصف آيا صوفيا، فاعتبرها بأنها: "أعظم كنائس الروم وأروعها" (إسماعيل، 2010).
وفي عام 1204م، وبعد سقوط القسطنطينية في يد الصليبيين الكاثوليك، تم تحويل آيا صوفيا إلى كاتدرائية رومانية كاثوليكية، وقد استمرت هكذا إلى أن استعادها الروم البيزنطيين في عام 1261م، وبعد أن تم تأسيس الإمبراطورية البيزنطية من جديد، عادت آيا صوفيا إلى كونها كاتدرائية بطريركية أرثوذكسية (قان ديمير،2014، 18)، وبعد الفتح الإسلامي للقسطنطينية في عام 1453م، أمر السلطان محمد الفاتح بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، فرفع الأذان فيها لأول مرة بحضور السلطان وأقيمت الصلاة فيها، وكان من عادة الأتراك العثمانيين إذا افتتحوا مدينة أو قلعة، قاموا بنصب رايات العثمانية على أسوارها وأبراجها، ومن ثم يرفعون الأذان فيها، ويقومون بتحويل أكبر كنائسها إلى مسجد كعلامة للفتح وعنوان له (قان ديمير، 2014، 33).
ومنذ ذلك الحين أصبحت آيا صوفيا مسجداً للمسلمين يعبد فيها الله الواحد ولا يشرك به، بعد أن كانت كنيسة لمئات السنين، واستمرت على وضعها كمسجد طوال فترة الحكم العثماني، وقد تخلل هذه الفترة بعض التعديلات العمرانية فقط. وبعد انهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية وفي إطار علمنة الدولة وتغريبها فقد أغلق مسجد آيا صوفيا في عام 1931م، إلى أن اتخذت حكومة أتاتورك قرارها بتحويله إلى متحف عام 1934، وتم فتحه للزوار في 1 فبراير 1935م (قان ديمير،2014، 19).
وفي العاشر من يوليو لعام 2020م، ألغت محكمة تركية قرار وضع آيا صوفيا كمتحف وأعلنت عدم مشروعيته قانونياً، وأعقب هذا القرار مرسوم من رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان يقضي بإعادة تصنيف آيا صوفيا كمسجد وافتتاحه للعبادة. وهكذا تكون آيا صوفيا قد مرت بعدة تحولات تاريخية، فآيا صوفيا التي بدأت ككنيسة أرثوذكسية يونانية ثم تحولت إلى كنيسة كاثوليكية رومانية، ومن ثم عادت إلى أصلها الأرثوذكسي لتتحول بعد الفتح الإسلامي إلى مسجد، ثم تصبح متحفاً بقرار من حكومة الجمهورية التركية، ثم لتعود اليوم مسجداً للمسلمين بفضل من الله تعالى.
ثالثاً: مشروعية تحويل آيا صوفيا إلى مسجد
اعتمد السلطان محمد الفاتح في إجرائه تحويل أيا صوفيا إلى مسجد على فتوى شرعية تقول بجواز تحويل الكنيسة إلى مسجد في البلد الذي فتح عنوةّ، فالبلد الذي فتح حرباً تجري عليه وتحكمه أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة في الفتح عنوة. وهذه الفتوى أفتى بها الشيخ آق شمس الدين مربي السلطان وأول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا. وهناك قول آخر بأن السلطان محمد الفاتح اشترى كنيسة آيا صوفيا من الروم بماله الخاص وجعلها مسجداً وأوقفها للمسلمين (إسماعيل، 2010). إلا أن القول الأول بأنها حولت بحكم أن المدينة أخذت عنوة هو الأرجح.
يقول المؤرخ الدكتور محمد حرب في كتابه "العثمانيون في التاريخ والحضارة": "كان من حق الفاتح قانوناً – مادام أن المدينة أخذت عنوة – أن يكون هو نيابةً عن الجيش الفاتح مالكاً لكل ما في المدينة وكان أيضاً من حقه تحويل نصف الكنائس والبيع وعلى مدى زمني طويل إلى مساجد وجوامع، وترك النصف الآخر لشعب المدينة على ما هو عليه، وفي وقفيات السلطان محمد الفاتح بنود كثيرة على بقاء أديرة جوكاليجا وآيا وليبس وكيرا ماتو والكس في يد البيزنطيين" (حرب، 1994، 53).
وقد قال البروفيسور الدكتور أحمد شيمشيرغيل وهو أستاذ التاريخ في جامعة مرمرة: "لا يوجد أي مانع سياسي أو حقوقي أو إداري يمنع تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، وأن قرار تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف تم اتخاذه من قبل مجلس الوزراء فهو قرار وزاري تنفيذي لا مشروعية حقوقية له، وليس له مرجعية قانونية. وأضاف بأن آيا صوفيا حولت إلى مسجد بأمر من السلطان محمد الفاتح وبما يتوافق مع الحقوق والأحكام الإسلامية فيما يخص البلاد المفتوحة عنوة والتي رفضت عروض السلم والتسليم بالصلح، وكان السلطان محمد الفاتح قد عرض على إمبراطور بيزنطة عدة مرات أن يسلم القسطنطينية سلماً ووفق معاهدة توافقية، إلا أن الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر أصر على مواصلة القتال والدفاع عن المدينة، وبذلك فقد أخذت إستانبول بالسيف، ومن حق من أخذ بالسيف أن يكون له الأمر في التصرف في شؤون البلد المفتوح بحكم أنه يمتلك ما فيها" (انجي كايا، 2020).
وأدلى الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو بدلوه في هذه القضية في تمييزه أرض الصلح عن الأرض التي فتحت عنوة من قبل المسلمين إذ قال: القسطنطينية وأرضها هي وقف للمسلمين إلى يوم القيامة باعتبار أنها فتحت عنوة، أما أيا صوفيا فهي لم تكن كنيسة وإنما كانت تابعة لكنيسة، يتوج فيها القياصرة والأباطرة باعتبار أنها مكان مقدس، وإن السلطان محمد الفاتح اشتراها من أهلها ولم يأخذها عنوة مع أنه كان من حقه ذلك، وذلك من باب إحسان المعاملة من قبله رحمه الله".
رابعاً: الأتراك العثمانيون أهل فتح وحضارة وليسوا غزاة ومحتلين
حاول المؤرخ الإنجليزي إدوارد شيبر دكريسي في كتابه "تاريخ العثمانيين الأتراك" أن يشوه صورة الفتح العثماني للقسطنطينية، ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة عام 1980 في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية وساقهم إلى أسواق الرقيق في مدينة أدرنه، حيث تم بيعهم هناك.
ولكن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول: إن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم واقتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان ورجال الدين واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم وطمأنهم بأنه سيحافظ على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم وأمرهم بتنصيب بطريكاً جديداً فانتخبوا أجناديوس بطريركاً وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الأساقفة إلى مقر السلطان، فاستقبله السلطان الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم، وتناول معه الطعام، وتحدث معه في موضوعات شتى؛ دينية وسياسية واجتماعية. وخرج البطريرك بعد لقاء الفاتح وقد تغيرت فكرته تماماً عن السلاطين العثمانيين وعن الأتراك، وبل عن عامة المسلمين، وشعر أنه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة، وإنسانية رفيعة ورجولة مكتملة ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريركهم فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لا بد لاحقهم فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية باطمئنان وسلام.
وإن السلطان الفاتح لم يُظهر ما أظهره من التسامح مع نصارى القسطنطينية إلا بدافع التزامه الصادق بالإسلام العظيم، وتأسياً بالنبي الكريم ثم بخلفائه الراشدين من بعده الذين امتلأت صحائف تاريخهم بمواقف التسامح الكريم مع أعدائهم. وإن كثيراً من المواقف التي سجلت في تاريخ الفاتح تدلنا على عمق إخلاصه للقيم الإنسانية. فقد كانت حماسته لبذل الجهد في نشرها ابتغاء مرضاة الله وكان عزمه منصباً على إزالة الاستبداد والدكتاتورية وإعطاء الشعوب حقها في اختيار العقائد التي تراها مناسبة لها. فدولته دولة العدل والقانون والحرية والكرامة الإنسانية والفتوحات القلبية والتشييد العمراني والحضاري تحت راية الإسلام العظيم.
خامساً: إنصاف الأحفاد الأتراك للسلطان محمد الفاتح
في إعلانه عن إعادة أيا صوفيا إلى سابق عهده أكد الرئيس التركي بأن قرار القضاء والقيادة هو قرار شعبي تركي وسيادي. وقد وصف الرئيس أردوغان، في كلمة ألقاها بمناسبة إعادة آيا صوفيا للعبادة كمسجد، قرار الحكومة التركية بتحويل المسجد إلى متحف في ثلاثينات القرن الماضي بأنه "لم يكن خيانة للتاريخ فحسب، بل وأيضا مخالفة للقانون لأن آيا صوفيا ليست ملكا للدولة ولا أي مؤسسة فهي ملك لوقف السلطان محمد الفاتح". وأضاف: "هذه العقلية في الماضي فكرت في استخدام هذا المسجد كمعرض للصور، وقصر يلديز التاريخي بإسطنبول كدار للقمار، وآيا صوفيا كناد لموسيقى الجاز، حتى أنهم نفذوا بعض هذه الأمور". وأفاد بأن من حق تركيا تحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد بشكل يوافق ما جاء في سند الوقف (الوقفية).
وأهم ما ذكره قوله: "إن مسجد "آيا صوفيا" سيبقى تراثاً إنسانياً، يفتح أبوابه أمام الجميع من مواطنين وأجانب وغير مسلمين". وهكذا نرى أن الشعب التركي المسلم حافظ على هويته الحضارية عبر القرون، معتزاً بتاريخ أجداده الكرام وعلى رأسهم السلطان محمد الفاتح، وكذلك الشعوب الإسلامية وأحرار العالم في مشارق الأرض ومغاربها.
ولقد تعرض مسجد آيا صوفيا لظلم كبير، بعد ما كان مقصداً للمصلين والركع السجود ومجمعاً للعلم والحكمة والثقافة والمعرفة من خلال المؤسسات العلمية التي بنيت حوله في شتى المجالات؛ ابتداء من علم الفلك إلى الفقه ومن الرياضيات إلى العقائد وعلم التفسير واللغة والحديث والسلوك. ففي عام 1934 – 1935 تم تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف بقرار جائر، وذلك يخالف قيم العدل والمكتسبات التاريخية النافعة لبني الإنسان وأحكام الوقف الإسلامي مما أحدث حزناً كبيراً في نفوس المسلمين، وتحول مسجد آيا صوفيا إلى مصدر خيبات للأمل وضنكاً أثر في النفوس وأفقدها طمأنينتها في داخل تركيا وخارجها، فتحولت قضية آيا صوفيا إلى عقدة دائمة أحدثت جروحاً عميقة استمرت في نزيفها الدامي إلى أن وصلنا قرار الإنصاف القضائي وتأييد إعادته إلى سابق عهده. وهذا القرار الذي نال قبولاً سياسياً وحزبياً وشعبياً تركياً وإسلامياً واسعاً، لهو إنصاف وعدل من بني الإنسان، ولا علاقة لهذا القرار بالصراع بين الأديان والحضارات، وإنما إعادة الأمور إلى نصابها، ورفع الظلم التاريخي على معلم من معالم الإنسانية الراقية.
وإن قرار إعادة آيا صوفيا إلى مسجد مرّ بمراحل شتى على مدار عقود من الزمن وتحقق قول تعالى: "وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا" (الأحزاب: 38)، وقوله سبحانه: "ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الجمعة: 4)، إن فتح أبواب العبادة من جديد لمسجد ظل محروماً من أهله على مدار قرن تقريبا لهو أمر عظيم استبشر به الأحرار ومحبي العدل وأنصار الحق الإنساني في العالم، وإنه لحدث عظيم يعين الإنسان على الاتعاظ والاعتبار واستلهام الدروس والعبر وفق أقدار الله وتعريفه في هذا الكون. فهناك من بني الإنسان مفاتيح للخير ومغاليق للشر وهناك العكس ولله في خلقه شؤون.
===================================
المراجع:
1. إسراء غوزال أردوغان، آيا صوفيا في العهد البيزنطي، مجلة استنبول للعلوم الاجتماعية، العدد (1)، صيف 2012.
2. إسماعيل قان ديمير، آيا صوفيا المعبد العظيم، إستانبول، 2004.
3. سيد علي إسماعيل، آيا صوفيا … الكنيسة … المسجد … المتحف، مجلة تراث الإماراتية، عدد (132)، سبتمبر 2010.
4. عبد السَّلام عبد العزيز فهمي، السُّلطان محمَّد الفاتح فاتح القسطنطينيَّة وقاهر الرُّوم، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الرَّابعة، 1407هـ/1987م.
5. عبد العزيز العمري، الفتوح الإِسلاميَّة عبر العصور، دار إِشبيلية، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1418هـ/1997م.
6. علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، دار ابن كثير، دمشق، 2003، ط1.
7. كلثوم انجي كايا، البروفيسور شيمشيرغيل، لا يوجد أي مانع من إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، وكالة الأناضول الإخبارية، 10/6/2020، انظر: https://bit.ly/38Qyle8
8. محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة، المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي، 1994م.
9. يلماز أوزنتونا، تاريخ الدولة العثمانيَّة، ترجمة: عدنان محمود سلمان، المجلَّد الأوَّل، منشورات مؤسَّسة فيصل للتَّمويل، تركيا، إِستانبول 1988م.