بل قل هي أعظم ثمرات الإيمان، حينما يعمر القلب، وتتعلق الروح بمآلها، ولا تفارقها لحظات الموت وسكراته، فتترجم الجوارح ذلك سلوكاً ربانياً، يُعز الله به المؤمن ويعلي شأنه، إنها القناعة والرضى بما قسم الله، فلا تذمر ولا سخط وهي مصدر قوة المؤمن فلا يُجامل، ولا يُداهن ولا يُنافق، ولا يرجو غير الله، ولا يخشى إلا الله.
وما نكتب هذه الكلمات إلا لنوجه بها أصحاب نفوس مَتَّعهم الله بكثيرٍ من النعم لا يحصوها، ولم يَحُسوا بها، وحرمتهم نفوسُهم والهوى لذةَ الرضا، وقادتهم إلى التذمر الدائم والسخطِ المتواصل، حتى وإن أُعْطُوا من خير الدنيا من زوجة وولد ووظيفة، ورتبة، وسيارة، وتجارة، ومكانة، دائماً نظراتهم وجُلَّ أوقاتهم تتجه لِمَنْ يعلوهم في ذلك، فتجد المجاملة، والمداهنة، ولا ينظرون إلى مَنْ هو أقل منهم، غافلين عن قوله تعالى ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ [النساء:32] غافلين عن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم (انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ) (متفق عليه)، وقوله (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) (رواه أحمد)، ولو نظرت في أمر الآخرة إلى من هو أعلى منك لشحذت همتك، واتقد قلبك وأشرقت نفسك .
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم أعظم القانعين، كان إذا تناول طعامه –الخشن الجاف- يتناوله راضياً ويقول: (الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا وجعلنا مسلمين)، وإذا شرب الماء يقول: (الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا)، وكان يردد (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (أخرجه الترمذي).
والقناعة ليست كما يتوهم المتوهمون، ليست أن ترضى بالدون، ليست أن ترضى حياة الهون، ليست ضعف همة عن طلب معالي الأمور ليست هذه هي القناعة، بل القناعة؛ أن تملك نفسك، وأن لا تملكك نفسك، وأن تكون قادراً على تسييرها وفق منهج الله، لا أن تُسيرك إلى شهواتها، والقناعة أن تملك أمرك، لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) (صحيح البخاري).
القناعة؛ أن تملك نفسك، وأن لا تملكك نفسك، وأن تكون قادراً على تسييرها وفق منهج الله، لا أن تُسيرك إلى شهواتها
وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يـضـرب المـسـلم في الأرض يـطـلـب رزقـه، ولا أن يـسـعـى المــرء فيما يعود عليه بالنفع؛ ولا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال؛ بل كل ذلك مطلوب ومـرغـوب، وإنـمـا الـذي يـتـعـارض مع القناعة أن تلج هذه الأموال قلبه، أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم الـعـامل من مهنته، وأن يُنافَق المسؤول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله -تعالى- لحصول مرغوب.
من الأسباب المعينة على تحقيق القناعة
(1) أن تدرك أنك في هذه الدنيا ضيفٌ لا يلبث أن يرحل، فقد خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي، فَأُجِيبَهُ" (رواه مسلم)- والضيف لا يتعلق بما في دار الضيافة، إنما يأخذ ما يكفيه في أدب وفي قناعة، ثم هو يدرك أنه راحلٌ عن هذا، وقال صلى الله عليه وسلم: " يَكْفي أحدَكُم مثلُ زادِ الرَّاكِبِ" (رواه ابن ماجه).
(2) أن تدرك أنه لا فائدةَ مِن جمعِ ما لا تنتفع به، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، وَإِنَّهُمَا لَيُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى) (رواه أحمد)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا وَلاَ يَمْلاَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) (متفق عليه)، فليس لك يا ابن آدم إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأمضيت، كل ما سوى ذلك هو زادٌ تتعب في جمعه وتُحاسب على منعه، وتُسأل عنه بين يدي الله تبارك وتعالى.
ثمار القناعة
(1) فأقنعُ الناس هم أغنى الناس ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس" (صحيح البخاري). والغنى أن تدرك أنك لست في حاجةٍ إلى غير الله تبارك وتعالى، وأن تستغني عن الناس وعما في أيدي الناس، هذا هو الغنى الحقيقي، فالقانع هو أغنى الناس، وأكثرهم له شكراً قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس" (أخرجه بن ماجه)، وقال: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه" (أخرجه مسلم).
(2) أنها تغني صاحبَها عن الوقوفِ على أصحابِ المالِ أو التذلل لذوي الجاهِ والسلطانِ، وهذا هو عزُّ النفسِ الذي تحققه القناعة للقانع.
(3) العز في القناعة، والذل في الطمع؛ فإن العبد يكون حرًّا متى قنع، عبدًا متى طمع، فهو عبدٌ للدينار، عبدٌ للدرهم، عبدٌ للقطيفة، عبدٌ لمن أحسن إليه، عبدٌ لمن كان بيده أن يعطيه أو يمنعه، فإذا تخلص الإنسان من هذا المعنى ورُزق القناعةَ، لم يكن عبدًا إلا لله تبارك وتعالى، ولقد ذكر ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه). ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعاً: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" (رواه الحاكم والبيهقي).. قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
4) الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الـخـصـال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالباً ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها، فمن قـنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله -تبارك وتعالى- بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين