ما يحيط بالمرء من حوادث وفتن وأحداث تجوب العالم بطوله وعرضه يفرض علينا شعورا من الغربة، وما نعيشه من واقع أليم يُعجز المرء منا عن تحقيق ما يبغي ويأمل يدخله في حالة انفصام وعزلة عن كل ما يحيط به حتى عن نفسه التي بين جنبيه وأهم أشكال هذا الانفصال والعزلة أحلامك التي تراودك في يقظتك فتصنع من خلالها عالمك الافتراضي الذي تبنيه وفق مواصفات وصفات تناسبك وتناسب ميولك ورغباتك وتجتاز بها كل المحن والمصائب والصعوبات التي تحيط بك.
ومن واقع تجربة وجدت نفسي عند اشتداد الأزمات تحاول الخروج من آثارها بالشرود والاستغراق بأحلام اليقظة لترسم معالم العالم أو الحياة التي يأمل بها أي بشر سوي، بل ويتعدى الأمر لتجد من يعلو صهوة أحلامه هذه ليحقق ما يناسب هواه ومزاجه ولو كان هذا الهوى متحررا من أي قيد أو شرع، وأحلام اليقظة هذه قاسم مشترك بين البشر إلا أن تأثيرها يختلف من شخص لآخر وكذلك طريقة التعامل معها مختلفة هي الأخرى، فالبعض يعمد إليها لتكون خط دفاعه الأول في مواجهة ما يمر به العالم من أزمات تترى، فتكون بمثابة فسحة له تخفف من أعبائه أو قل ساعة ترويح يروح بها عن نفسه مجتمعا بأخلائه وأحبابه الذين حالت بينهما أسباب الموت وأسبابا أخرى من الحياة راسما بعض آماله مستبشرا في تحقيق أهدافه.
والبعض يتخذها مطية يهرب بها من كل ما يحيط به رافضا لكل ما يذكّره بواقعه والمحيط الذي يحيط به، بل وجدت البعض قد حرر الأوطان وحاز على الشهادات وحقق كل ما يصبو إليه من أهداف وهو لا يكاد يفارق فرشة سريره أو يترك التصفح بهاتفه، ولماذا يفارق سريره أو هاتفه وقد حقق ما يريد لكن بعالم أحلامه لا عالم واقعه؟! بل إن الكثير منا يلجأ لأحلام اليقظة ليطوي بها المسافات التي تحول بيننا وبين مرغوب لا نستطيع تناوله على أرض الحقيقة والواقع أو نلجأ إليها هربا وتفلتا من موانع تحول بيننا وبين ما نريد وقد تكون موانع شرعية أو عادات وتقاليد أو حتى قضائية كمن يحلم بسطو على منشأة انتقاما من أحدهم أو طمعا بتحسين مستوى مادي عجز عن تحقيقه على أرض واقعه.
وعلى ما يبدو أن هذه الأحلام سلاح ذو حدين فإما أن تكون بمثابة قلم تدوّن بها قائمة ما تصبو إليه من أهداف تسعى في تحقيقها على أرض الواقع متخذا كل وسائل الجهد والمثابرة آخذاً بالأسباب المناطة بها، وهذا أمر جيد ومحفز يدفعك لخلع ثوب الكسل والدعة لتنهض وتثابر وتبذل وسعك وجهدك، متحققا فيك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] فيكون الشخص بهذه الحالة هو المسيطر على أحلامه فلا يتمادى بها تمادي يقعده عن العمل ويركن فيها إلى الدعة والتمني القلبي.
وإما أن تكون هذه الأحلام هروبا من الواقع ومواجهته فتتعدى استراحة العامل التي يأخذ بها أنفاسه ويتجاوز بها آلامه، بل يلوذ بها لتحقيق رغبات وشهوات تداعب فكره وخياله يفصله عنها سياج من الدين والقضاء أو العقل الرشيد على أرض الواقع، فيهرب أحدنا لأحلام اليقظة ليحقق ويتمتع ما عجز عن تحقيقه على أرض واقعه، وقد تذكرت وأنا أدوّن هذه السطور قصة طالما رويت على مسامعنا في الصغر لتنفرنا من العيش في عالم الخيال وأنه لا بد من الترجل على أرض الواقع وبذل الجهد لتحقيق أحلامنا وعدم البقاء في دائرة التمني والخيال لأن ذلك مفسدة للشخص ومضيعة للوقت والجهود، ومدار القصة ومضمونها أن راعٍ استلقى تحت جرة من السمن وقيل من العسل وأخذ بوضعه هذا يتنقل في أحلام يقظته شرقا وغربا حتى وصل به للزواج من أميرة وإنجاب أبناء فاشتط بأحلامه حتى بلغ أن أبناءه عصوه فلوح بالعصا مهددا بضربهم، وإذا بعصاه تنال من الحقيقة التي في حياته وهي جرة العسل فانسكب ما فيها ومعه جهده الذي بذله في جمعه فلا واقعا أبقى ولا حلما حقق.
والذي يظل يعتمد على أحلام يقظته لتحقيق ما يصبو إليه من آمال أو ليهرب مما يشعر به من آلام فإن حاله لن يزيد عن حالة صاحبنا الراعي في القصة السابقة الذكر، بل إن أفضل وسيلة هي مواجهة الواقع والسعي في سبيل تحقيق آمالنا ودحض مخاوفنا سعيا حقيقيا جادا، وتأمل ردة فعل الفاروق رضي الله عنه وأرضاه عندما لقي ناسا من أهل اليمن فقال: "من أنتم قالوا نحن المتوكلون قال بل أنتم المتواكلون إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله"، فلا تكن متواكلا في أحلامك وخواطرك وأفكارك وإنما خذ بأسباب تحقيقها متوكلا على خالق الأسباب.
وإليك بعض المقترحات للتعامل مع أحلام اليقظة إن كنت أسيرا في شباكها عاجزا عن الهبوط من التحليق في فضائها للسعي على أرض واقعك ومعاشك الحقيقي:
1.اشغل نفسك وذهنك بالمفيد وقد يكون بكتابة قائمة أهداف تسعى لتحقيقها على اختلاف أمد هذه الأهداف من قصر وطول واجعل من أحلام اليقظة فيها وقودا لعزمك وتوقدا لنشاطك وإرادتك ومثابرتك.
2.اجعل من أحلام يقظتك أحلاما منتجة إيجابية فإن وجدت نفسك تشطط في هذه الأحلام ويسيطر على ذهنك وفكرك الجانب السلبي المظلم وفيها ما يخالف إنسانيتك أو فطرتك أو شرعك، تذكر أن الله لا تخفى عليه خافية وعلمه يحيط بسرك وعلانيتك فهو جل شأنه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
3.إن شعرت بأنك أسير للسيئ من أحلام اليقظة وأنك ترزح تحت وطأتها وقد أحكمت سيطرتها عليك اختر من تثق به وتخفف منها بمشاركته بما يدور في ذهنك فالحديث عنها بداية التحرر من سيطرتها بل ربما وجدت نفسك حرا طليقا بعد جلسة الفضفضة تلك وكأنها نفايات تخلصت منها للتو.
4. تذكر أن الأحلام ستظل رهينة فكر صاحبها ولن تتحقق ما دام يدور حولها في فلك أحلامه، وأن السعي في سبيل تحقيقها هو السبيل الوحيد بعد توفيق الله على ترجمتها من عالم الأحلام لأرض الواقع، ومن غير السعي في مناكب الأرض ستظل أوهاما لا أساس لها.
5. الواقع لن يغير من سوئه ولن يزيد من جماله هروبك لعالم الأحلام بل لا بد من تغيير على مستوى الفرد والمجتمع ومسؤوليتك أنت نفسك التي بين جنبيك ولن تتغير نفسك ما لم تقم بتغيير المدخلات لفكرك والتي تمثل أحلام اليقظة جزءا كبيرا منها، فقد عرفت مصدر خللك فالزم العمل على إصلاحه وتغييره.
6. وأخيرا وقبل كل شيء استعن بالله ولا تعجز وانطرح بهمك وحملك وحلمك بين يديه وعلى بابه فلن يرد سائلا ولا طارقا لبابه الكريم.