ليس بين الكمّ والكيف عداوة من حيث الأصل. فالتضارب المُتوَهَّم بينهما والإشكالات التي تنشأ في محاولة ضبطهما أو الجمع المتوازن بينهما في مختلف الخطط عامة وفي طموحات العبادة خاصة، سببها الرئيس آفات المقارنات المحمومة بالغير، والتركيز المذموم على التنافس الإنجازي، الذي يعتمد على مفهوم العَجَلة اللاهثة (لا السرعة المبنية على التركيز)، وعلى مبدأ حشد أكبر كمّ في أصغر مُدّة (لا الاستكثار لاغتنام المتاح)، وعلى لهفة الوصول لخط النهاية قبل خطوة البداية (نفسيّة الخلاص لا الإخلاص). فلا عجب أن يعاني أصحاب تلك المفاهيم والمبادئ والنفسيّات من قلة الصبر (أو انعدامه تمامًا)، والمِزاج العصبيّ الهائج، وسرعة الملل والتململ، وإدامة النظر في جداول سمينة وخطط سميكة مع ضُمور الحركة وهُزال العمل!
ويمكن فضّ ذلك الاشتباك بمراعاة ما يلي:
1) الصدق في تعيين نواياك، وشخصنة خططك، وصوغ مناهجك بنفسك لنفسك: فحياتك ومعانيها ومنجزاتها تعنيك وحدك أوّلًا، وتُكَلَّف فيها نَفسَك بنَفسِك أوّلًا. تخفف من المقارنات المحمومة بغيرك، والسباق اللاهث مع أوهام الإنجاز دون حقائقه. ومفتاح الطموح الحَقّ هو جدّية شعورك بالمسؤولية عن عمرك ونفسك، وسبيله تعلم العلم الحَق الذي يهدي للحق والرشاد، ودافعه دوام الاستعانة بالله تعالى.
مفتاح الطموح الحَقّ هو جدّية شعورك بالمسؤولية عن عمرك ونفسك، وسبيله تعلم العلم الحَق الذي يهدي للحق والرشاد، ودافعه دوام الاستعانة بالله تعالى
2) تقدير واجب كل وقت وأولوياته: فثمّة مواسم وأزمان فاضلة على غيرها شرعًا، كيَوْمَي عَرفة وعاشوراء وشهر رمضان... ؛ وثمّة أوقات أو مراحل تشغلك فيها شخصيًّا أمور أولى في حقك من غيرها مما يشغل غيرك ممن هو في عمرك أو مجالك، كتأجيل سفر أو دراسة للعناية بوالد مريض أو طفل رضيع... وهكذا. فالحِكمة وقتها في أن تعطي صاحب الحق حقَّه والواجب الأولى أولويّته، دون أن تحزن على ما فاتك أو تبتئس لما فاز به غيرك دونك فلكل شيء أوانٌ مقدور لا يفوته حقيقة ولكُلٍّ فَوْزُه في الميزان الإلهي في امتحانه المَعنيّ به.
3) التركيز في الجهة الصحيحة: ليس الكيف والكمّ بذاتيهما ما يُمليان عليك منهجك ولا يحدّدان الناتج والأثر، بل طبيعة سياقك وما تتيحه ظروفك التي لا يمكنك تغييرها أو تطويعها، ثمّ مقاصدك وما تنوي الوصول له أو تحصيله مما تخطّط هي التي تملي عليك صياغة الكيف والكم. فابدأ بالنظر في المتاح لك ثم في غاياتك ومقاصدك، وعلى أساسهما قرّر الكمّ والكيف. وبعدها داوم على مراجعة مدى تقدّمك وأثر منهجك على تحقق تلك الغايات والمقاصد، ودون التعارض أو التناحر مع ظروفك وطاقاتك.
ليس الكيف والكمّ بذاتيهما ما يُمليان عليك منهجك ولا يحدّدان الناتج والأثر، بل طبيعة سياقك وما تتيحه ظروفك التي لا يمكنك تغييرها أو تطويعها، ثمّ مقاصدك وما تنوي الوصول له أو تحصيله مما تخطّط هي التي تملي عليك صياغة الكيف والكم
4) الحرص على الاستكثار: بما يعني الحرص على اغتنام الفرص المتاحة حين تتاح ، خاصة أوقات الفراغ والصحّة، مع مراعاة الانقطاع، والتركيز العقلي أثناء أداء العمل، خاصة في العبادات. إذ الاستحضار العقلي لمبدأ امتثالِ العبودية هو بوابة حضور وجدان أدب العبودية واستشعار معانيه الإيمانية. بهذا يختلف هذا الحرص عن التهافت السطحي على التكويم الرقمي والحَشد الكَمّي لعدّادات المهام وقوائم الإنجاز بأداء آليّ مستعجل. (ملاحظة: الانقطاع لعمل يتطلب كامل التركيز كالاستماع لدرس فقه أو تلاوة القرآن أو القراءة، غير اغتنام الأوقات البينية بالجمع بين عملين لا يتطلب أحدهما ذلك، كالاستماع لموعظة أثناء انتظار أو إعداد طعام).
5) الحرص على المداومة: كما ذكرنا بهدف حفظ رأس مالك، الذي مهما فَترتَ تعود لتبني عليه، ومهما حدث لا تنزِل دونه.
هذا ولا بأس –بصفة عامة- إذا تَطَلّب الكيف تقليل الكَمّ، لكنّ المحذور -بصفة عامة- هو جَوْرُ الكمّ على الكيف، خاصة حين يصير ذلك عادة ودَيْدنًا، فيؤدي للأداء الأجوف أو الآليّة الخاوية من المعنى . لذلك لا بدّ من اليقظة، وتجديد اليقظة، بمراعاة المفاتح المذكورة أعلاه.