الاستشراف المستقبلي ووضع السيناريوهات المختلفة عند اتخاذ القرار

الرئيسية » بصائر الفكر » الاستشراف المستقبلي ووضع السيناريوهات المختلفة عند اتخاذ القرار
استخدام-أسلوب-السيناريوهات-في-التخطيط-التربوي

مع التعقيد الكبير الحاصل في مفردات الحياة البشرية، وفي ظل التداخُل الكبير الحادث بين مختلف مساقات حياتنا، بين ما هو اجتماعي وما هو ثقافي أو سياسي، وغير ذلك فإنه بات من الضرورة بمكان إذا ما أراد أن يتصف بسِمَة الرشادة، وأنْ يحقق نجاحات في حياته، ويحيا بكرامة وإنجاز أن يعمل الإنسان وفق قواعد التخطيط والتحرُّك السليمة التي أقرتها العلوم الاجتماعية، والتي منها العلوم الإدارية والسلوكية.

ومن بين أهم المجالات التي اهتمت بها الأمم الناهضة في عالمنا المعاصِر، هي الدراسات الاستشرافية، والتي تهدف إلى وضع تصورات مستقبلية، إما لتطوير ما هو قائم في مجال ما، أو لتوقُّع أمرٍ ما جديد سوف يحدث في هذا المجال، سواء لأجل تعظيم الاستفادة منه إن كان إيجابيًّا، أو لمواجهته إذا ما كان سلبيًّا، مثل توقُّع حدوث وباءٍ أو ما شابه.

ومن المعروف أن الدراسات الاستشرافية، إنما هي مِن أشقِّ مجالات التخطيط؛ فهي لا تخضع لتقييمات دقيقة بالقدر الكافي الذي يضمن نجاح هذه الاستراتيجية المستقبلية، وإن خضعت فإنَّ عاملاً واحدًا مفاجئًا، مثل أزمة اقتصادية غير متوقَّعة بسبب انخفاض/ ارتفاع أسعار المواد الخام، أو وقوع حرب كبيرة، أو وفاة سياسي كبير، أو حدوث عائق مفاجئ غير مُنْتَظر، مثل جائحة كورونا المستجد الحالية؛ نقول إنَّ عاملاً واحدًا بهذه الصفة، سوف يؤدي بكل تأكيد إلى تغيُّر كامل في خريطة التوقعات.

وقد يقود ذلك إلى تفاقُم حالةٍ ما أو أزمةٍ ما؛ لأنه وقتها سوف يواجه الفرد/ المجتمع/ الدولة، الأزمة من دون استعدادٍ كافٍ لمواجهتها.
ولعل أغرب ما يمكن أنْ يتصوَّره غير المتخصص في هذا الأمر، هو أنَّ الدراسات الاستشرافية المستقبلية، إنما تُوضع ليس بناءً على تصور واضح ودقيق للواقع فحسب، وإنما للماضي كذلك، من خلال دراسة نماذج حالة سابقة لذات المجال أو الموقف الذي نسعى إلى وضع تصوُّر مستقبلي سليم لأجله ؛ حيث يمكن بشيء من الدقة، رسم سياسة واضحة يمكن أخذ القرارات بناءً عليها من خلال هذه النماذج الماضية.

وفي حقيقة الأمر، تزداد أهمية هذه النوعية من الدراسات وما ترتبط به من نَواحٍ في الفهم والمدارك، بالنسبة للأفراد؛ ففي حالة المجتمعات والدول، يعمل مبدأ "الكُل أكبر من مجموعة أجزائه"، ويمكن لجزء أنْ يحمل أعباء جزءٍ آخر، ويعاونه في موقفٍ مفاجئ أو في أزمةٍ ما، أمَّا في حالة الفرد، فإن فوائد الاستشراف المستقبلي السليم، قد تمثِّل في لحظةٍ ما، الفارق بين الحياة والموت .

وهذه الأمور ليست بخافية على الحركة الإسلامية، والتي حاولت منذ عقود قليلة مضت، تطوير رؤى ومدارك أبناء الحركة وأبناء المجتمعات التي تتحرك في إطارها، من أجل تحديثها، وإدخالها عصور الحداثة وما بعدها، سواء على المستوى المفاهيمي، أو على المستوى التطبيقي.

وكان من بين ما اهتمت به هذه النوعية من الدراسات، الدراسات الاستشرافية، ولكن واجه مفكرو ومنظِّرو الصحوة الإسلامية بعض النواحي التي كان ينبغي الوقوف أمامها لضبطها بالضوابط الشرعية.

فمثلاً، يقول الدكتور هاني بن عبد الله الجبير، في كتابه "من معالم المنهجية الإسلامية للدراسات المستقبلية"، إنَّ الدراسات المستقبلية علم حديث، وهو مع حداثته ينضوي تحت العلوم التي صيغت صياغةً غربيَّة، في إطار ثقافة الغرب العلمانية، ولأجل أنْ تحقق الأمة المصلحة من هذا العلم، فلا بد أنْ تُصاغ هذه الدراسات على أساس التصوُّر الذي ينسجم مع هوية الأمة وتطلعاتها، كما لا بد أنْ تنضبط بضوابط الشريعة الإسلامية".

ويضيف أنه: لمَّا كانت الدراسات المستقبلية تقع في ميدان الثقافة الاجتماعية؛ فإنَّ دور الشرع فيها، هو النقد والتهذيب وبيان الضوابط، ولكنه من جهةٍ أخرى، يقول إنَّه لا ينبغي أنْ يقود ذلك إلى حالةٍ من القطيعة مع كل منتجات الغرب في هذا المجال "فمع أنَّ الحذر الذي يحرِّض على الإبداع في مناهج بديلة تتلافى ما في المناهج التي وضعها غير المسلمين من عيوبٍ ومخالفات، مطلوب ومُؤكَّد لكنه لا يمنع الاستفادة من تلك المناهج والأساليب إذا ضُبِطَت بالضوابط الشرعية حتى تُوجَد المناهج البديلة وتنضج".

في الجانب العملي -بجانب المحاذير الشرعية- فإنَّ هناك نقطة مهمة ينبغي تفاديها عند الحديث عن الدراسات المستقبلية، وهي أنَّها تختلف تمامًا عن التنبؤات غير ذات موضوع، أو التي لا تُبنى على أسس وقواعد علمية سليمة.

فالاستشراف المستقبلي، مفهوم علمي، وبالتالي فإنَّ له أدواته التي تضمن تحقيق أكبر قدرٍ من الدقة في التوقُّع، من خلال منهجية سليمة في التفكير والتخطيط .

وبالتالي فإنَّ المنتجات النهائية لورشات العمل وجلسات العصف الذهني "Brain Storming"، لا تكون تنبؤات حَدَسِيَّة، وإنما تكون أقرب ما تكون إلى إقرار واقع ولكنه سوف يصبح واقعًا مستقبلاً.

ويساعد على الوصول إلى هذه الدرجة من الدقة، أنْ يعمل الإنسان/ المؤسسة/ الحكومة/ المجتمع.. إلخ، على وضع أكثر من سيناريو للموقف المطلوب التعامل معه مستقبلاً.

وفي هذا الإطار، يميِّز الخبراء أيضًا بين الاستشراف المستقبلي ودراساته، وبين التخطيط الاستراتيجي؛ لأن دراسات الاستشراف المستقبلي تُعنى بوضع احتمالات ما قد يكون عليه أمرٌ ما في المستقبل، مع ترجيح أي الاحتمالات أقرب للحدوث ولكن من دون يقينٍ كامل بهذا الاحتمال.

أما التخطيط الإستراتيجي، فإنه يتعلق بتحديد أهداف بعينها سعيًا لتحقيقها، ولكن هذا لا يمنع أن الدراسات المستقبلية يمكن أن تساعد في توجيه المُخَطِّط الإستراتيجي، والعكس صحيح؛ فالتخطيط الاستراتيجي يمكن أن يخدم -من خلال المعلومات الدقيقة، والتقييم السليم للواقع- الذين يقومون على إعداد الدراسات المستقبلية.

وبالتالي فإن التعاون بين المجالَيْن، شديد الأهمية في تحقيق النجاح المطلوب هنا أو هناك.

وفي الأخير... فإنَّ هذا الأمر أكثر عمقًا بكثير من أنْ يستطاع استيعاب قواعده وعلومه في هذا الحيِّز، ولكن تبقى أهمية هذا الموضِع من الحديث، هو تكريس أهمية أن يكون هذا الأمر في حسبان الجميع، أفرادًا ومجتمعات، والحركة الإسلامية وأبناؤها ليسوا استثناءً في هذا الإطار، بل إنَّه في ظل انحرافات لدى البعض، وتراجعات كبيرة حدثت في السنوات الماضية، بات كلا المجالَيْن (الدراسات المستقبلية والتخطيط الاستراتيجي) على أكبر قدرٍ من الأهمية والأولوية.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …