من البديهيات الغائبة عن مجتمعاتنا في المجال التربوي، قضية على أكبر قدرٍ من الأهمية في المجال العام، وترتبط بأمور على أعظم قدرٍ من الأهمية، بما في ذلك حتى قضية تعظيم المناعة الذاتية للمجتمع، وهي قضية تربية الطفل على الاعتماد على نفسه.
وهذا الحديث ليس من قبيل المبالغات؛ فقد أثبتت التجارب التاريخية، والنظريات التربوية الحديثة، أن تنشئة الطفل على الاعتماد على نفسه، هي اللبنة الأهم في مجال التنمية البشرية، وتعظيم قوة المجتمع.
وتكمن أهمية عبارة "تنشئة الطفل على الاعتماد على نفسه" بالصورة التي تحقق الكفاءة والفاعلية اللازمتَيْن للنجاح في حياته، فيما تتضمنه من تفاصيل كثيرة، من بين أهمها تنمية مهارات وقدرات الطفل، وغرس المعارِف الأساسية اللازمة لكي يستطيع التعامُل مع مفردات الحياة من حوله، ويواجه الصعاب مستقبلاً، أو خلال مرحلة الطفولة نتيجة طارئ مثل حربٍ مفاجئة أو رحيل الأب أو الأم.
وتكمن ضرورة تحسين قدرة الإنسان على الاعتماد على نفسه في مرحلة الطفولة، في قضية أساسية، وهي أنَّ عملية غرس القدرات والمهارات والمعارف، تكون وفق الدراسات الحديثة في مجال التربية وعلم النفس وحتى الطب البشري، في أفضل حالاتها في مرحلة الطفولة.
ومن البديهي في دراسات العلوم الإستراتيجية، أن العامل البشري هو أهم عوامل قوة الدولة، وتعضيد مناعتها الذاتية.
ولقد بدا ذلك في أجلى صوره خلال الحرب العالمية الثانية؛ فالذي وَقَى بريطانيا والأمم الأخرى المتقدمة في المجال السياسي والاجتماعي والتنموي وقتها من السقوط؛ كان هو المواطن المؤهَّل للحياة في أشقِّ الظروف، من خلال ما اكتسبه منذ صِغَره من مهارات ومعارف في مختلف المجالات.
وحتى الأمم التي سقطت تحت الاحتلال النازي في حينه؛ فإن هذا الفرد الذي نشأ مُنذ الصِّغر، نشأةً سليمة، وعلى رأسها الاعتماد على النفس وما يتصل به من قدرة على الفِعْل الإيجابي، هو الذي كان أهم عوامل عدم تثبيت المحتل في البلدان والدول التي احتلَّها.
وحتى في تاريخنا في المجتمعات العربية، وبعد ظهور الإسلام؛ فقد كان هذا الأمر على أكبر قدرٍ من القيمة والتأثير –بعد التربية النبوية للجيل الأول من المسلمين– في بزوغ وسيادة دولة العرب المسلمين على العالم القديم كله في أقل من ثلاثة عقودٍ.
فكُنَّا نرى فيمَن هم في سِنِّ المراهقة وشرخ الشباب، نماذج قادرة على قيادة الجيوش وإدارة شؤون الأمصار المفتوحة، مثل أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عنهما.
وبالرغم من ضخامة هذه المسؤولية على الآباء والأُمَّهات والمربِّين، وبالرغم من أثر وخطورة هذه المهمة، إلا أنها ليست بالصعوبة التي يتصورها البعض؛ فهي –وبالذات في عصرنا الحالي الذي يشهد تطورًا كبيرًا في أساليب التربية والتلقين والمعرفة المختلفة- مهمة سهلة ويمكن تبسيطها من خلال بعض الأدوات والوسائل التي متى أجادها الأب والأم في البيت أو المربِّي في المدرسة؛ فإنها تحدِث أعظم الأثر.
مبدئيًّا؛ تُحدِّد الأخصائية النفسية شيرين خليل النقطة الزمنية التي يمكن أن يبدأ الطفل فيها في الإحساس بذاته وبشخصيته المستقلة، وبالتالي، البدء في تأهيله للاعتماد على نفسه، عن سِنِّ عامٍ ونصف، أو 18 شهرًا.
فبحسب دراسات طبية ونفسية كثيرة؛ فإنه في هذه السِنِّ، أو عند سِنِّ عامَيْن، تبدأ ذاكرة الطفل في التكوُّن، وبالتالي، تتشكَّل قدرته على إدراك العالم الخارجي من حوله، والبدء في التعامل معه ومع مفرداته.
وبطبيعة الحال؛ فإنَّ هناك فروقًا فردية في هذا المُقام؛ فيمكن لأطفال في سِنٍّ أدنى من ذلك، تكوين مهارات أفضل في مجال الانتباه والإدراك، أو يتأخرون إلى سِنٍّ أكبر من ذلك، لكن الطبيعي في هذا الأمر، هو سِنِّ ما بين 18 إلى 24 شهرًا.
ولكل مرحلة من مراحل الطفولة المبكِّرة أو المتأخِّرة، والتي هي الأهم في تشكيل شخصية الإنسان فيما بعد عندما يكبُر، وإما أن يتم تأهيله فيها –بشكل عام، وليس فقط في نقطة الاعتماد على النفس– أو يواجه متاعب مُستَقبَلاً؛ نقول إنه لكل مرحلة من هذه المراحل، وسائل وآليات لتعويد الطفل على الاعتماد على النفس.
ويبدأ هذا بأبسط الأمور. تعويده على تناول الطعام وتغيير ملابسه، وعدم الاعتماد على الآخرين في السير، وعدم الاستجابة له عندما يطلب أن يحمله الأب أو الأم خلال السير في الشارع.
وهذه الأمور أهميتها ليست في نقطة الاعتمادية على النفس فحسب؛ بل لها أهمية أخرى على المستوى الطبي؛ لأنها تحسِّن من قدرة الطفل على الاستجابة العصبية وتحريك يدَيْه مع أعضاء جسده الأخرى، حركات معقدة ومنسَّقة، وهو ما يفيد كذلك في تطوير قدراته العقلية والعصبية.
وهنا ثَمَّة نقطة مهمة ينبغي على الآباء والأمهات مراعاتها عندما يبدأ الطفل في الذهاب إلى الحضانة والمدرسة الابتدائية، وهي ضرورة الاطلاع على طريقة التربية والتعامل معه في الحضانة أو المدرسة؛ لأنه ينبغي أن تتكامل الجهود التي يقوم بها الأب والأم في البيت مع جهد المؤسسة التربوية والتعليمية التي يذهب إليها، فلا يكسَل إذا ما لم تكُن هذه المؤسسات على القدر المناسب من الاهتمام بهذه الأمور.
وبالمثل في حالة وجود مُرَبِّية في البيت؛ فينبغي ملاحظة سلوكها مع الطفل، والتنبيه عليها بعدم الإفراط في تدليله، وتركه –بعين المراقبة فحسب– يقوم بما يريد فعله، مع التدخُّل وحمايته في الوقت المناسب، لو أقدم على فِعْلٍ أكبر من قدراته، أو أوقعه في خطرٍ ما.
كما أن الأب والأم –بخلاف ما يقوم به الكثير من أولياء الأمور في كل هذه المراحل– يجب عليهما مساندة الطفل إذا ما ظهرت عليه بوادر الاستعداد للتعلُّم الذاتي والاعتماد على النفس؛ فيتركانه يبدِّل ملابسه ويتناول طعامه ويحضِر أشياءه الخاصة، ويرتِّب مكان نومه وأشياءه وألعابه، وهكذا.
كما أنه من المهم في مرحلة الطفولة المبكِّرة ترك الطفل يتعامل مع الحمَّام وحده، ليكون قادرًا على استعمال أدوات النظافة المختلفة، وتكوين مهارات أكثر تعقيدًا في استعمال يده مع الأشياء المختلفة، لأن هذا –كما تقدَّم– لا يفيد الطفل في قضية تنمية السلوك وتطويره فحسب، وإنما كذلك في تطوير مهاراته الحركية.
وفي سنِّ الطفولة المتأخِّرة، يمكن تعويد الطفل على بعض الأمور الأكثر تعقيدًا وأهمية من مسألة الطعام والملابس، أو استعمال الحمَّام، مثل التعامل مع الكهرباء، والخروج إلى الشارع العام وحيدًا، وشراء بعض المستلزمات للبيت.
و"تقليد الكبار" ليس أمرًا سلبيًّا في هذا المُقام كما يتصوَّر البعض، وإنْ كان من المهم ترشيد هذه النقطة في بعض الأمور التي لا تليق أو لا تتناسب مع مرحلة الطفولة، ولكن من المهم ترك الطفل "يُقلِّد الكِبار" بشكل عامٍ، وإشعاره بأنَّه "منهم"، أي من الكبار، وتعويد الطفل الذَّكَر على وجه الخصوص، على أنه قد صار رجلاً مسؤولاً، ويتحمَّل مسؤولية أفعاله.
وهنا قد يكون من المناسب عقابه على الأخطاء التي لا يجب عليه "كرجُل" أن يرتكبها؛ فهذا من شأنه تعضيد هذا الإحساس لديه.
وللأم دورٌ أكبر في هذا المُقام بخلاف الشائع؛ لأن الفارق بين كونه "صغيرًا" أو "كبيرًا"، يكمن في كيفية نظر أمِّه له، وطريقة تعاملها معه، وهنا يجب على الأم إخفاء قلقها على الصغير، وتعليمه بعض أساليب التعامُل الخشن –وليس العدواني– مع العالم الخارجي، بما في ذلك بعض الأنشطة التي تشتمل على ألمٍ أو جهدٍ مُتعِب.
وفي الأخير؛ فإن هذه الأمور لها الكثير من التفاصيل الفنية التي يمكن أنْ تملأ دراسات ومجلدات كبيرة، ولكن لن تكون معرفة هذه التفاصيل مهمة أو مفيدة إذا ما لم يكن هناك إدراكٌ بأهمية هذه القضية من الأساس، وهو ما يجب على التربويين والدعاة في المحاضن المختلفة، العمل على غرسه كفكرة أساسية لدى الأجيال الجديدة من الآباء والأمهات.