تمايز الصفوف، هو أفضل ما حصل بعد التطبيع الإماراتي الصهيوني المعلن على الملأ دون خجل أو مواربة، وصدق رسول الله ﷺ (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) (رواه البخاري)، كما بات الفضاء الإلكتروني منقسماً بين فئة صامدة ومتمسكة بحقوق أمتنا في فلسطين ومقدساتها، ورافضة للكيان الصهيوني ووجوده، وبين أخرى منبطحة، تدور في أفلاك مصالحها -أو قل مصالح من يدفع لها- بين من يتجاهل القضية من الأساس ولا يعتبر أنه مهتم بها، وبين من يتفاخر بالتحدث بالعبرية ليخطب ودّ القتلة ومغتصبي الأرض، حتى وصل بأحدهم إلى طلب المسامحة من الصهاينة أنفسهم، إلى غير ذلك من الصور المشينة التي نعاينها يومياً.
ولست بصدد أن أتكلم عن تلك الأقسام، فالأمور واضحة وضوح الشمس، وانقسام الناس بات واضحاً، لكن ما يجدر التركيز عليه، هو ظاهرة الفتاوى تحت الطلب، أو الفتاوى المعلّبة الجاهزة، التي صدّع بها رؤوسنا "دعاة السلاطين" لتبرير الخيانة والانهزام.
صحيح أننا بتنا نشاهد تياراً واضحاً -خصوصاً في بعض دول الخليج- يقدّس أصحابه ولي الأمر ويرفعوا مكانته ليكون في منزلة الله ورسوله، بل وصلوا إلى درجة العبودية له، بحيث لا يسأل عما يفعل، فهو الوحيد العالم بخبايا الأمور ومصالحها، ونقده أو الاعتراض عليه جريمة تستحق الإنكار والعقاب، حتى لو جاهر بالزنا أمام الملأ كما صرح أحدهم سابقاً!
هذه الفئة باتت مواقفها مفضوحة أمام الجميع، فما أكثر تناقضاتهم، ويكفيك أن تلقي نظرة على تويتر -على سبيل المثال- لتجد كيف ناقضوا أقوالهم في بضعة أشهر أو سنوات معدودة، وكل ذلك لأنهم يقومون بأدوار واضحة -كأدوار الإعلاميين والممثلين- يوجههم بها من يحركونهم، وهم جاهزون لتبرير مواقف أسيادهم، حتى لو كان بنقض كلام سابق لهم بالكلية، وهم أشبه بماكينة القهوة، أو المشروبات الباردة، فقط ضع العملة فيها، ثم اختر ما تريد!
دعاة السلاطين جاهزون لتبرير مواقف أسيادهم، حتى لو كان بنقض كلام سابق لهم بالكلية، وهم أشبه بماكينة القهوة، أو المشروبات الباردة، فقط ضع العملة فيها، ثم اختر ما تريد
عموماً، من الواضح أن من يحرك أولئك -أصحاب الفتاوى الجاهزة- قد أعطاهم السيناريو الذي لابد وأن ينشروه للناس لتبرير الخيانة، وهو يتكون من مستندين اثنين حسب ما اطلعت عليه.
- إجراء الصلح والقيام بالأمور السياسية من صلاحيات ولي الأمر ولا تجوز منازعته في ذلك.
- التطبيع مع اليهود جائز قياساً على صلح الحديبية.
وسأقوم في مقالتي هذه ببيان عوار هذين الأمرين شرعاً، فهي ساقطة لا تنهض لمعارضة أدلة تحريم ما قاموا به، لكن لا بأس أن أقف مع كل واحد منهما لبيان فساده.
هل الأمور السياسية منوطة بولي الأمر وحده؟
هذا السؤال يحتاج إلى فهم لطبيعة وظيفة ودور ولي الأمر أو الحاكم. فحينما نتكلم عن حاكم الدولة، فإننا لا نتكلم عن نبي معصوم مؤيد بالوحي يصيب ولا يخطئ، وإنما نتكلم عن بشر، لا تنزه قراراته عن الخطأ والمعارضة. فالأصل في الحاكم أنه منفذ للشريعة، وخاضع لأحكامها، والأمة لها حق توليته وعزله، وهو ليس له فضل على شعبه، بل هو رجل من الرجال، وواحد من الأمة، ووكيل عنها في إدارة شؤونها بما ترتضيه ، فلا يجوز للوكيل أن يقوم بأمر لم يرضه الموكّل، وإلا خالف العقد المبرم بينه وبين أمته.
صحيح أن الحاكم أو من ينوب عنه هو الذي يقوم بعقد الاتفاقيات والمعاهدات، إذ لا يجوز عقلاً ولا شرعاً أن تقوم الأمة كلها (كعشرة ملايين، أو مئة مليون) بالتوقيع على كل اتفاقية، لكن ذلك لا يعني أنه لا يناقش في قراراته، ولا يعترض عليه، بل هناك العديد من النصوص التي تعطي حق الأمة في النقد والإنكار، والتي سأذكرها بعد قليل.
لكن عودة إلى مفهوم الأمور السياسية، فإن تصدر شخص ما للقيام بالدور السياسي لا يعطيه حصانة من الخطأ ، بل السياسة فيها خطأ وصواب. قال الفقيه المالكي ابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام: "والسياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشرع يحرمها. وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيراً من المظالم، وتردع أهل الفساد، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية". (2/115).
بل إن السياسة المبتغاة هي كما قال ابن عقيل: "ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد" (الطرق الحكمية/17).
والسؤال الأهم، هل التطبيع مع الكيان الصهيوني، يجلب المصالح للأمة، وهل يدفع الظلم عن الآخرين -أقصد الفلسطينيين- أم يكرّسه ويشجع العدو على القيام بالمزيد منه!
هل التطبيع مع الكيان الصهيوني، يجلب المصالح للأمة، وهل يدفع الظلم عن الآخرين -أقصد الفلسطينيين- أم يكرّسه ويشجع العدو على القيام بالمزيد منه!
ولست بصدد أن أبرهن على فساد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وما يجرّه من كوارث على ذات الدولة، لوجود تجارب حقيقية في مصر والأردن، وكذلك السلطة الفلسطينية، التي باتت ترى اتفاقياتها مع الاحتلال مجرد عبء لا تستطيع التخلص منه، خصوصاً وأنها تعاني من أزمة مالية خانقة، وقد خسرت كل شيء، شعبيتها، وتحالفاتها، حتى أنها خسرت الاحتلال الذي دعمها من الأساس!
أعود إلى فكرة التسليم بقرارات الحاكم وعدم معارضتها بدعوى اختصاصها به وحده، فهي مصادمة للنصوص الشرعية، لكن لا غرابة أن "مفتي السلاطين" لا يشيرون إليها لأنها تنسف فكرتهم وادعاءاتهم.
وأورد بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر لكثرتها، مع ذكر بعض من شروح أهل العلم عليها:
- قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [المائدة:78].
يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير "إن من شأن المناكير أن يبتدئها الواحد أو النفر القليل، فإذا لم يجدوا من يغير عليهم تزايدوا فيها ففشت واتبع فيهما الدهماء بعضهم بعضاً حتى تعم وينسى كونها منكرات فلا يهتدي الناس إلى الإقلاع عنها والتوبة منها، فتصيبهم لعنة الله" (6/293). وبرأيي أن الحاكم إذا قام بمنكر مخالف للشرع، يجب الإنكار عليه، وإلا عمّ جميع الناس، فأصابتهم لعنة الله .
- قال تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد* يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم الناس وبئس الورد المورود} [هود: 96-98].
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار: "والعبرة في الآيات: أنه لا يزال يوجد في البشر فراعنة يغوون الناس ويستخفونهم ويستعبدونهم فيطيعونهم ويذلون لهم ذل العبد لسيده، والحمار لراكبه، والحيوان لمالكه، ولم يستفيدوا شيئا من هداية القرآن ورشده، وتجهيله لقوم فرعون في اتباع أمره، مع وصفه بقوله: {وما أمر فرعون برشيد} وبيان أنه كان سبباً لإتباعهم لعنة في الدنيا ولعنة يوم القيامة، وأنه سيقودهم في الآخرة إلى النار، كما قادهم في الدنيا إلى الغي والفساد، ومنهم من يدعون الإسلام ولم يفقهوا قول الله - تعالى - لرسوله في آية مبايعة النساء {ولا يعصينك في معروف} وقوله -صلى الله عليه وسلم -: " لا طاعة لأحد في معصية الله "إنما الطاعة في المعروف (متفق عليه)" (12/126). لذا، فتسليم الأمر للحاكم للقيام بالمنكرات واتباعه وعدم معارضته، هو أشبه بحال قوم فرعون الذين اتبعوه في الكفر بالله ونبيه موسى عليه السلام.
تسليم الأمر للحاكم للقيام بالمنكرات واتباعه وعدم معارضته، هو أشبه بحال قوم فرعون الذين اتبعوه في الكفر بالله ونبيه موسى عليه السلام
- قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة: قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (رواه مسلم).
يقول القاضي عياض في كتابه إكمال المعلم أن نصيحة أئمة المسلمين تتمثل بطاعتهم في "الحق" ومعونتهم عليه، وأمرهم به وتذكيرهم إياه على أحسن الوجوه وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من أمور المسلمين. (1/290). ويقول د. فتحي الدريني في كتابه خصائص التشريع الإسلامي: "نصرة الحاكم تشمل التوجيه والنقد والتبصير والنصح، كما تشمل التأييد والعون والولاء والإخلاص" (364).
- قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث صحيح). يقول الشيخ المباركفوري في تحفة الأحوذي: "فإن الناس إذا لم يكفوا الحاكم عن ظلمه بقول أو فعل أوشك أن يعمهم الله بعقاب لتضييع فرض الله بلا عذر" (6/389).
خلاصة ما سبق، أن قرار الحاكم في الأمور السياسية وغيرها لابد أن يتحلى بالأمور التالية:
1- أن لا يخالف شرع الله، وهذا لا يمكن معرفته إلا بمشاورة أهل العلم والاختصاص، فإن لم يشاور، أو كان قراراه مخالفاً لكليات الشريعة ونصوصها ومصادماً لمقاصدها كان معصية، واتباعه إثم لا شك فيه.
2- أن يكون معبراً عن إرادة الأمة، لأن الحاكم وكيل عن الأمة كما أشرت سابقاً، وعدم رضا الأمة عن ذلك يعطيها الحق في الإنكار عليه ورفض منكره، بل وحق عزله إن كان ذلك ممكناً.
وفي نفس الوقت، فإن الأمرين السابقين لا يمكن أن يصادرا حق الأمة بالاقتراح والاعتراض والنقد، لأن الحاكم ليس إلهاً لا يعترض على حكمه .
هل يجوز قياس التطبيع على صلح الحديبية؟
القياس هو إلحاق حكم الأصل بحكم الفرع لعلة جامعة بينهما. فتكون لدي مسألة جديدة، لا أعرف الحكم الخاص بها، فأجد مسألة قديمة تشترك معها بنفس العلة، فيصبح حكم الجديدة مثل القديمة.
على سبيل المثال: قياس المشروبات الكحولية على الخمر، لاشتراكهما في العلة وهي الإسكار.
وفي مسألتنا هذه، فإننا بحاجة إلى النظر بتأمل، لتوضيح معنى التطبيع والصلح.
فالصلح الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش كانت ملامحه تتمثل بالآتي:
1- وقف القتال والحرب لمدة معينة (عشر سنوات).
2- عدم الإقرار على عبادة الأصنام أو الاعتراف بحقهم في الشرك بالله.
3- كان عقد الصلح مع أناس يقيمون في بلدهم بشكل شرعي فهم أهل مكة وإن كانوا كفاراً.
أما التطبيع فإنه يتسم بالأمور التالية:
1- لا توجد حرب مطلقاً، بل تتحول إلى علاقة تعاون وسلام دائم.
2- التبادل والتعاون في كافة المجالات، الأمنية والفكرية والثقافية والسياسية وغيرها.
3- يتم مع اليهود المحتلين وهم الذين احتلوا فلسطين و طردوا أهلها، وهم لا يقيمون فيها بشكل شرعي على الإطلاق.
بناء على هذا الاختلاف، فإنه يظهر أن القياس الذي يدعيه أصحاب "الفتاوى المعلبة الجاهزة" هو قياس فاسد، إذ لا يقوم على علة صحيحة منضبطة نظراً للاختلاف في حقيقة الأمرين.
وهناك نقطة في غاية الأهمية تتعلق بهذا الأمر، وتتمثل بأن التطبيع يكرّس وجود المحتل، فهو يعزز من ظلمه ووجوده، وبالتالي يمده بالقوة، ونحن في الأصل مطالبون بإزالة الاحتلال، وليس بتكريس وجوده، وإعانته على ظلمه، بعمنى آخر حتى لو كان الاستدلال صحيحاً، فإنه يحرم سداّ للذريعة لأن النتيجة المترتبة عليه هي فاسدة بلا شك.
التطبيع يكرّس وجود المحتل، فهو يعزز من ظلمه ووجوده، وبالتالي يمده بالقوة، ونحن في الأصل مطالبون بإزالة الاحتلال، وليس بتكريس وجوده، وإعانته على ظلمه
ولأن الكيان الصهيوني يحتل أرضاً للمسلمين، فإن حكم الجهاد فرض عين، ويتعيّن علينا دفعه بكل السبل.
وهذا ما نص عليه أهل العلم في كتبهم، ومما جاء فيها على سبيل المثال:
جاء في أحكام القرآن للجصاص الحنفي: "ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين وهذا لا خلاف فيه بين الأمة إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم" (4/312).
وجاء في كتاب إرشاد السالك لشهاب الدين المالكي: "إذا نزل الكفار دار الإسلام تعيّن على كل من أمكنه النصرة حتى العبيد والمرأة، ولا منع للسيد والزوج والولد" (1/50).
وجاء في شرح النووي على مسلم: "قال أصحابنا الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعيّن عليهم الجهاد فإن لم يكن فى أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية" (13/9).
وجاء في الشرح الكبير لابن قدامة: "إذا نزل الكفار ببلد تعيّن على أهله قتالهم ودفعهم" (10/368).
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى "فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفـس والحرمة واجب إجماعاً" (4/607).
وقال ابن القيم في الكافي: "إذا نزل الكفار ببلد المسلمين تعين على أهله قتالهم والنفير إليهم، ولم يجز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل والمكان والمال ومن يمنعه الأمير الخروج، لقوله تعالى: انفروا خفافا وثقالا" (4/254).
فهذه النصوص هي غيض من فيض، تثبت أن الواجب هو مقاومة هذا الاحتلال وإزالته لأنه احتل أرضاً للمسلمين .
بل إن بعض دعاة السوء، يستدلون برأي الشيخ ابن باز -رحمه الله- في جواز التطبيع، فهو رحمه الله قد أجاز عقد الصلح مع اليهود وتبادل السفراء معهم، وهو وإن اختلف الكثير من أهل العلم مع رأيه، إلا أنه لم يبح التطبيع الذي تقصده الإمارات وأبواقها من المأجورين، فهو نص على بعض الأمور التي تخالف ما يدعون إليه وهي:
1- الصلح لا يقتضي تمليكهم فلسطين، بل هو نتيجة الضرورة فقط.
2- لا يلزم من الصلح مودتهم أو موالاتهم بالمطلق.
3- يجب قتالهم عندما يكون المسلمون قادرين على ذلك.
ولمن يرغب بالتأكد بإمكانه الرجوع لكلامه بالنص من هنا.
خلاصة ما سبق، أن التطبيع لا يقوم على أي مستند شرعي، وفي الحقيقة أنه ليس خلافاً فقهياً ينبغي أن نعذر بعضنا بعضاً حوله، وأن نقول أنه اجتهاد يصيب عليه المرء أو يخطئ، بل إن من يقوم به لا يعطي لذلك أي اعتبار، فهو يوالي أعداء الدين ليعينهم على منكرهم في قتلهم للفلسطينيين وتقويتهم بالمال والنفط.
إن المبررين لهذه الخطيئة يعلمون علم اليقين خطأ رأيهم، كما هو حال من حولهم، لكن علينا أن نعلم أن تطبيع الإمارات، أو غيرها من الدول، لن يغيّر في أذهان أمتنا أن الكيان الصهيوني هو عدوها الأول، وأنه سبب مصائبها، وأن قضية تحرير فلسطين هي قضية أمة بأكملها وليست حكراً على الفلسطينيين .
أسأل الله أن ينصر أمتنا على اليهود وأعوانهم، إنه سميع مجيب.