يمثل التنظيم (ماكينة) العمل في الحركة الاسلامية منذ أن تأسست في عشرينيات القرن الماضي، وتأتي أهمية العمل التنظيمي للحركة الإسلامية باعتبار مهمته؛ وهي عمل شامل يتعلق بالفكر والتربية والإصلاح وصناعة شروط النهضة وليس عملاً حزبياً صرفاً؛ فطبيعة التغيير المنشود في واقع الأمة أكبر بكثير من تغير سياسي محدود لا يملك حتى أدنى وسائل الحماية لاستمراريته لذا فهي مهمة حضارية في الأساس لا يمكن أن تقوم بها الحركة الإسلامية دون الأمة كما أنه لا يمكن حسمها في جيل واحد.
واستطاعت الحركة الإسلامية، بما تملك من قوة أخلاقية، وحضور تنظيمي مؤطر وفاعل، من استرداد الذات، والمحافظة على الهوية، وتحقيق الوعي، وبعث الصحوة ، وظلت جزءاً من المناعة في مقاومة الاستبداد، وشكلت رافعة لثورات الربيع العربي، إلا أن الفجوة بين الواقع الموجود، والواقع المنشود، ما زالت كبيرة، وتحتاج تبني استراتيجية للتغيير، تعتمد على رؤية واضحة، وإلى مراجعات في صيغ العمل التنظيمي الحالية، من حيث النظم، والهياكل، والوسائل، مع إدراك حجم الفجوة، في واقع قد تغير كثيراً عما كان عليه في الماضي.
البناء الفكري والتربوي: المطلوب بناء الإنسان، من حيث منظومة القيم، والفكر، والسلوك، وتعزيز ثقافة المقاومة، والمشاركة، والانفتاح على الآخر، والعمل الوطني، والسياسي، ومواجهة فكر التطرف، والغلو، وتأصيل الموقف من مشاركة المرأة ، ومن قضايا الفن، والإعلام، مع مراعاة التباينات القائمة، في الحالة التنظيمية، والبيئات السياسية، والجغرافية، بين مكونات الحركة الإسلامية.
البناء المؤسسي: التزام الشورى، والممارسة الديمقراطية في التصعيد القيادي، وفي اتخاذ القرار، وفي بناء السلطة، وتعزيز المشورة، وحرية التعبير، والنقد الذاتي، بما يحقق (استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، والحرز من الملامة، والنجاة من الندامة، وأُلفة القلوب، واتباع الأثر) وتطوير اللوائح والنظم والهياكل لمواكبة التطور في حجم التنظيم وانتشاره، وفي مواجهة التحديات التي تواجه مشروع الحركة الإسلامية في التحرير والعودة.
صناعة القادة: وهي قدرة التنظيم على إعداد وتأهيل القادة، وتجديد الدماء، وتوريث التجربة، والخبرة من السلف إلى الخلف، فلا (يغيب الرشد بغياب المرشد)، وهي ثقافة مؤسسة أكثر من مجرد دورات تدريبية، والتنظيمات التي تعتمد في نجاحها على شخصية القائد فقط؛ لا يُصنع فيها قادة إنما أتباع، ما يؤدي الى فقر شديد في الأفراد المؤهلين للقيادة، وإلى تفرد الزعيم الملهم والقائد الوحيد، والاستئثار بالمناصب، وإلى تراجع دور المؤسسة التشريعي والرقابي، الذي قد يؤدي إلى صراع على السلطة وتنازع على مراكز القوة والنفوذ، مما لا تحمد عقباه، {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
التنظيمات التي تعتمد في نجاحها على شخصية القائد فقط؛ لا يُصنع فيها قادة إنما أتباع، ما يؤدي الى فقر شديد في الأفراد المؤهلين للقيادة، وإلى تفرد الزعيم الملهم والقائد الوحيد، والاستئثار بالمناصب، وإلى تراجع دور المؤسسة التشريعي والرقابي، الذي قد يؤدي إلى صراع على السلطة
الرسالية: وهي ثقافة تميز الجيل المؤسس، {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا}، وتمثل نبض التنظيم وحياته {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وهي ثقافة مسؤولة، قائمة على الإخلاص والمناصحة، وحب الإيثار، وبذل الجهد والوقت والمال، وتقديم التضحيات. وإذا ما ضعفت الرسالية، تفشت الظواهر السلبية، من الصراع على المناصب والمصالح الشخصية، والكولسة في الانتخابات، والولاء للأشخاص، والمحاباة، والإقصاء، واستغلال المال العام، أو الموقع التنظيمي، وهي على سبيل المثال لا الحصر، ويعتبر انتشار هذه الظواهر أو غيرها من أخطر الأسباب في تفتيت الروابط الأخوية وتفكيك التنظيم، وتراجع أدائه.
إذا ما ضعفت الرسالية، تفشت الظواهر السلبية، من الصراع على المناصب والمصالح الشخصية، والكولسة في الانتخابات، والولاء للأشخاص، والمحاباة، والإقصاء، واستغلال المال العام، أو الموقع التنظيمي
وعلى المسؤولين، في كافة المستويات القيادية، وعلى الجهات ذات الاختصاص، العمل على علاج هذه الظواهر، والحد من انتشارها، من خلال المناصحة، وقبول النقد الذاتي، ومحاسبة المخالفين، وتطبيق القانون بشجاعة وحزم، دون محاباة لأحد، مهما كان موقعه التنظيمي، قبل أن تستشري، ثم يصعب علاجها.
وهناك جملة قضايا أخرى مرتبطة بما سبق، ولا تقل أهمية عنها مما يحتاج إلى حوار بناء، وإمعان في الفكر، وعقد المؤتمرات لها لإنضاج رؤية واقعية حولها نذكر منها: الانتقال من التنظيم إلى التيّار، ومن الأطر التنظيمية إلى الأطر الشعبية، ومن الاستقطاب إلى الاستيعاب، ومن النخبوية إلى العامة، ومن الانغلاق على الذات إلى الانفتاح على الآخر، ومن الحزبية إلى الوطنية، ومن فقه الدعوة إلى فقه الدولة، ومن فقه التقليد إلى فقه التجديد، ومن فقه المغالبة إلى فقه المشاركة.
هذا، بالإضافة إلى بعض الجدليات والمفاهيم والتي منها: السرية والعلنية، الإصلاح والتغيير، فصل الدعوي عن السياسي، حدود الطاعة والحرية، الدولة الاسلامية والدولة المدنية،الخلافة الإسلامية والدولة القطرية، الوطن والأمّة.
هذا عرض مختصر ومركز لما ورد من قضايا تستلزم من القيادة والمسؤولين الانتباه إليها والنظر فيها، ولعلنا نفصّل في بعض القضايا الواردة، إذا سمح المجال والظرف وبإذن الله تعالى.
(اللهم آتنا من لدنك رحمة وهيّء لنا من أمرنا رشدنا)